أوجاع الولادة
نجيب العنسي
من الممكن ، بل ويحدث فعلا أن يعبر التاريخ مسافة زمنية طويلة من حياة شعب ، دون أن يعيره أدنى اهتمام ، فهو يجرر ساعاته وأيامه ، والأعوام تلو الأعوام ، ببرود وسكون ، دون أن يكلف نفسه بتدوين شيء مما قد يفعله هذا التجمع البشري الذي يمارس فيه الإنسان حياته كآلة حية حددت الطبيعة سلفا آلية تكاثرها، وما الذي تحتاجه من عناصر وموارد لاستمرار بقائها .
يقطع التاريخ المسافات الزمنية بتثاقل ، وقد أرهقه تكرار النظر إلى الإنسان الذي – والحق يقال – لا زال يعيش لا لأنه يرغب في الحياة ، بل لان ديناميكية الجسد لا زالت تعمل.
ولهذا يمكن لمائة عام من تاريخ شعب ، أن يدونها التاريخ في سطر واحد ، قائلا: لقد حكمه الوالي فلان ، وخلفه بعد ذلك علان.
لكن حين يقرر شعب ، أو يجد نفسه يسلك دربا غير الذي كان قد الف عبوره بعينين مغمضتين وباستكانة تدعو للشفقة ، حين يغفل ذلك ، فإن التاريخ ينتصب مروعاً صفحاته التي تتقاطر لالتقاط وتدوين ما باتت تعرف أنها أحداث ذات قيمة بدأ الشعب في اجتراحها.
حينها تتمرد المسافات الزمنية عن مقاييسها وتتجاوز رتابتها ، فإذا بالسويعات وقد اختزلت من الأحداث والوقائع المتسارعة واللاهثة ، ما كان تعجز السنوات أن تأتي بمثلها.
كل ذلك التسارع في الأحداث ، وكل هذا الخروج عن المألوف والمرسوم سلفا ، وكل هذه الجرأة على مواجهة الطرقات المتخمة بالكمائن ، يؤذن بأن مرحلة جديدة في حياة ذلك الشعب قد بدأت ، وهي مرحلة تليق بحجم ما أقدم عليه ، وقاساه. لأجل الوصول إليها.
وهذا تحديدا ما أراه يحدث في اليمن ، فما بين رمضان الفائت والحالي ، عام شهد هذا البلد فيه من الأحداث والحوادث ما لم يشهده في كل تاريخه تقريبا ، لم يحدث أن واجه حرباً على هذا النحو وبكل هذه الإمكانيات والإصرار على الإيغال في استئصال شعب بأكمله ، بينما يقف وحيدا وعنيدا وثابتا يواجه اعتى قوى الكوكب ، يحاور ويحارب ، يموت ويحيى كل يوم دون ادنى بوادر للخنوع ، وبجرأة لا مرادف لها.
وهذه الأحداث لا يمكن أن يخوضها شعب ثم ينكفئ بعدها – وبكل بساطة- عائداً إلى سالف عهده بالحياة ، لأنها حداث إذا ما بدأت فإن لها آثارا لا تنقطع ، وما بعدها أبداً لا يكون كما قبلها .
و قد أحسن شاعر اليمن البردوني في وصفه هذه الحالة التي نرتديها وتلبسنا ، رغما عنها وبالرغم منا ، فقال:
حسنا … إنما المهمّة صعبه
فليكن … ولنمت بكلّ محبه
…….
مبدعات هي الولادات … لكن
موجعات … حقيقة غير عذبه
……….
إنهم يطبخوننا ، كي يذوقوا
عندما ينضجوننا ، شرّ وجبه
خصمنا اليوم غيره الأمس طبعا
البراميل أمركت (شيخ ضبّه)
عنده اليوم قاذفات ونفط
عندنا موطن ، يرى اليوم دربه
عنده اليوم خبره الموت أعلا
عندنا الآن ، مهنة الموت لعبه.
//////
(دستوفيسكي )
لا أدري لماذا يذكرني ما بدأ ولايزال يجري في بلادنا ، في طبيعته وكثافة وتسارع ايقاعه،
برواية( الأخوة كرومازوف ) وهي أكبر الأعمال الروائية ، للكاتب الروسي دستوفيسكي .
فعدا كونها أشهر أعماله وتحتل صدارة الأدب العالمي ، هي أيضاً أضخمها حجما بحيث تكفي لسرد حياة أكثر من جيل ، كما هو المألوف في الروايات الكبيرة ، لكنها بمجلداتها الأربعة ، لا تحكي سوى عن أحداث يومين فقط من حياة أبطالها.
وقد تركت هذه الرواية أثراً في الأدب العالمي ، وعلم الاجتماع ، كما أن علماء النفس يعدون هذه الرواية أولى مدارس التحليل النفسي.