إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط.
والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ولابد أن يبنى عليها أعماله وآماله وإلا كان هازلاً.. يجب أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، بقلب لم تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كُربة، يجب أن يظل موفور الثقة بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها أخرى وأخرى، بل يبقى موقنا بأن بوادر الصفو لابد آتية، وأن من الحكمة ارتقابها في سكون ويقين.
والصبر من معالم العظمة وشارات الكمال، ومن دلائل هيمنة النفس على ما حولها، ولذلك كان “الصبور” من أسماء الله الحسنى، فهو يتمهل ولا يتعجل ويبطئ بالعقاب إن أسرع الناس بالجريمة، ويرسل أقداره لتعمل عملها على اتساع القرون، لا على ضيق الأعمار، وفى نطاق الزمن الرحب، لا في حدود الرغبات الفائرة، والمشاعر الثائرة، يقول الله عز وجل: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده و إن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون).
والصبر من عناصر الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل. والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله، لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة، والمناكب الشداد !! كذلك الحياة، لا ينهض برسالتها الكبرى، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون.. ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئاً لما أوتوا من مواهب، ولما أدوا من أعمال. سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الناس أشد بلاءاً، قال: “الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. يُبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه. وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة”.
ومن الغرائب أن بعض الناس فهم أن الإسلام يمجد الآلام لذاتها ويكرم الأوجاع والأوصاب لأنها أهل التكريم والمودة. وهذا خطأ بعيد، فعن أنس بن مالك قال: رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام شيخاً يهادى بين ابنيه، فقال: ما بال هذا، قالوا نذر أن يمشي! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله عن تعذيب هذا لغني” وأمره أن يركب. وعن ابن عباس أن أخت عقبة نذرت الحج ماشية وذكر عقبة لرسول الله أنها لا تطيق ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة”. وقال الله عز وجل: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم). إنما يحمد الإسلام لأهل البلوى وأصحاب المتاعب رباطة جأشهم وحسن يقينهم، وهو إذ يذكر لهم الأسقام التي يعانونها، أو الضوائق التي يواجهونها، لا يعنيه منها إلا ما تنطوي عليه من امتحان يجب اجتيازه بقوة وتسليم، لا باسترخاء وتسخط على القدر.
Prev Post
Next Post