*من محاضرة له عن التكفير والتطرف:
العامة محمد سعيد البوطي :
حالة الغلو والتطرف يجب أن تناقش بشفافية مع أولئك الذين يؤمنون بمشروعية التكفير والاستباحة. والتكفير يعود إلى أسلوب في التفكير يقوم على أساس البحث عن أدنى احتمال يمكن أن يؤدى إلى الحكم بتكفير المسلم، والحكم أيضاً بتكفير من قدّم معونة لمن سبق عليه الحكم بالكفر مزاجياً، وتجويز القتل على أثر هذا الحكم، وهو ما يتعارض مع العقل والكتاب والسنة، ويستلزم تكفير أئمة السلف. وموقف الغلاة من غير المسلمين يتجاهل ويرفض ما اتفق عليه الأئمة من «ديار الأمان»، ويرون أن الدنيا كلها دار حرب. وهذا أيضا ما يتعارض مع نص القرآن والسيرة النبوية.
1ـ من اليسير تحديد معنى كل من التطرف والغلو، لغةً واصطلاحاً. ولكن ليس من اليسير تحديد المعنى المراد بالإرهاب اصطلاحاً. ولا أعلم لهذه الكلمة إلى اليوم إلا معناها اللغوي.
وعلى الرغم مما هو معروف من أنّ معنىً اصطلاحياً قد جدّ لها في هذا العصر، بل في السنوات الأخيرة فإني لم أتمكن من الكشف عنه والمراد به. كل ما أعرفه من ذيول هذه الكلمة أنّ هوليود كانت ولا تزال تنتج أفلاماً يسمونها «أفلام الرعب» وكلمة الرعب، ككلمة: ذعر.. فظاعة.. هول، ترجمة دقيقة لـ Terrorism باللغة الإنجليزية.
وإذا لم يكن في وسعي أن أعرف المعنى الاصطلاحي الذي يروج اليوم لكلمة الإرهاب، فليس بوسعي إذن أن أحدّد موقف الإسلام منه. وأعتقد أنّ هذا الذي أقوله عن نفسي يصدق على غيري أيضاً. اللهم إلا أولئك الذين ألبسوا هذه الكلمة ثوب المعنى الذي أرادوه، ثمّ روجوا لها مخوفين ومنذرين في عالمنا العربي والإسلامي،
فلا ريب أنهم على علم فيما بينهم بالمعنى الذي أرادوه، ثمّ روجوا لها مخوفين ومنذرين في عالمنا العربي والإسلامي، فلا ريب أنهم على علم فيما بينهم بالمعنى الذي توافقوا واصطلحوا عليه.
ولكن يغنينا عن التعامل مع هذا المصطلح الغامض الذي يساق كثير منّا للتعامل معه على غير علم به، أن نتعامل مع مصطلحي الغلو والتطرف المعروفين والمحددين في فقهنا الإسلامي فإنّ الحديث عن الإرهاب بعد ذلك لن يكون له أي دور في إتمام نقص لهذا الموضوع، ولا في إزاحة غموض عنه.
2- كثيرة هي الملتقيات التي عقدت في رحاب عالمنا العربي والإسلامي لمناقشة الغلو والتطرف. ولكن جميع الذين كانوا يتلاقون فيها، من طرف واحد. منكرون للغلو، موقنون بخطورته على الدين والمجتمع. أمّا الطرف الآخر المؤمن به والممارس له، فليس فيها ممن يمثله أحد!!
ترى ما هي جدوى هذه الملتقيات التي لا يتفرّق الموجودن فيها إلاّ عن تأكيد لما هم متفقون عليه، حتى لكأنهم شخص واحد يسمع نفسه ما قد حفظه، ويكرّر على ذهنه ما هو موقن به؟!.
إنّ جدوى مثل هذه الندوات محصورة في مجادلة الذين يمارسون الغلو في معتقداتهم وفي العلاقات السلوكية بمجتمعاتهم. ومعلوم أنّ ذلك لا يتم إلاّ بوجودهم طرفاً ثانياً في هذه اللقاءات والندوات. بل المأمول أن تكون مشحونة عندئذ بالفائدة، إن هيمن فيها النقاش الموضوعي الحرّ.
الغلوّ والتطرّف:
إذن فالموضوع الذي بوسعنا أن نعالجه ونتحرك فيه، هو هذا الذي نملك السبيل إليه ونتبين للعلم والمنطق موقفاً منه وحديثاً عنه: الغلو والتطرف.
الغلو: يقال غلا في الأمر غلواً، أي جاوز حدّه. هذا هو المعنى اللغوي العام للكلمة. أمّا المعنى المصطلح عليه في الشريعة الإسلامية، فهو تجاوز الحدّ المشروع في المعتقد
(النساء:171).?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاّ الْحَقَّ ?أو السلوك. ومن ذلك قول الله تعالى:
وأمّا التطرّف: فمن الطرف، وهو الناحية من الشيء. يقال: تطرّف، إذا انتحى ناحية من الشيء، أي ابتعد عن لبّه ووسطه. أمّا المعنى المصطلح عليه لهذه الكلمة، فهو الابتعاد عن الوسط الذي هو العدل المقرّر ميزانه في كتاب الله وسنة رسوله، والانحياز إلى أحد طرفيه المتجه إلى تكلّف الشدّة، أو المتجه إلى قصد التساهل والتملّص من المسؤولية.
فبين الكلمتين اتفاق في «المصداق» وإن كان بينهما اختلاف في المفهوم الذهني. ومما لا ريب فيه أن كتاب الله تعالى قد نهى عن الغلو في أكثر من مناسبة.. ونظراً إلى أنّ مصداق الكلمتين واحد كما قلت، إذن فقد كان النهي عن الغلو مستلزماً للنهي عن التطرف.
غير أنّ هذا الذي لا ريب فيه، لا يجدي بيانه وتأكيده شيئاً، ما دام الحكم على الألفاظ وحدها، إذ إنّا سنجد الكل متفقين على نبذ ما يوصف بالغلو والتطرّف، ولكن الخلاف يكمن بعد ذلك فيما ينعت أو لا ينعت بالغلو والتطرّف.
أي فالغلاة في الدين لا ينعتون أفكارهم وسلوكاتهم أياً كانت، بالغلو أوالتطرف.
بل يرون أنها العدل المتفق مع القرآن والسنّة.
لذا لابدّ من استعراض المسائل التي نرى – بشواهد من القرآن والسنة – أنهم يبتعدون بها عن المنهج العدل ويركبون فيها متن الغلو، منحازين إلى طرف من الشدّة أو طرف من التساهل وقصد التملص من المسؤولية، مع بيان شرود الحالين عن الانضباط بمصادر الشريعة الإسلامية.
مظاهر الغلو والتطرّف:
مهما تكاثرت أو تنوّعت مظاهر الغلو والتطرّف ، فهي تظل محصورة في أمرين اثنين:
التكفير وأسبابه.
أصول التعامل مع غير المسلمين.
أمّا التكفير، فتتجلى حقيقة الغلو فيه، في أنّ الشارع بمقدار ما ضيّق السبيل إلى الحكم به، خالف المغالون، فوسعوا السبيل إلى الحكم به. إنّ المتفق عليه عند أهل السنة والجماعة، جماهير علماء العقيدة الإسلامية، أنه لا يجوز الحكم على المسلم بالردّة إلى الكفر، مهما تكاثرت مؤيدات الحكم عليه بذلك، مادام احتمال واحد لبقائه على الإسلام موجوداً.
ولكن الغالين يعكسون الحكم، فيذهبون إلى أنه لا يجوز الحكم على المسلم بالإسلام، مهما تكاثرت مؤيدات الحكم بإسلامه، مادام احتمال واحد لتحوله إلى الكفر موجوداً!..
وبناءً على ذلك، فإنّ كل من حكم بغير شرع الله عزوجل في داره التي هو القيم علىأهله فيها، أو في مجتمعه الذي هو الحاكم والمتنفذ فيه، أو في مؤسسته التي هو المدير لها والمتنفذ فيها، فهو كافر مرتدّ يستأهل القتل في مذهب هؤلاء المتطرفين. ولا جدوى من احتمال أنهم إنما حكموا بغير شرع الله تساهلاً منهم أو كسلاً أو بسبب ركونهم إلى شهوة متغلبة أو مصلحة دنيوية قاهرة، مع يقينهم بأنهم آثمون في جنوحهم عن الحكم بما أنزل الله.
ومظهر الغلو في هذا يتجلّى في تجاهل الفرق بين المعصية السلوكية التي لا تجرّ إلى أكثر من الفسق، والمعصية الاعتقادية التي تزج صاحبها في الكفر، كما يتجلى في التوجّه بالحكم الجماعي على كل المتلبسين بهذه المعصية، دون تفصيل ولا تفريق ودون أي تقدير للحالات الخاصة والأوضاع الفردية، كما يتجلّى في مخالفة جريئة صريحة لهدي المصطفى(ص) وتحذيره من التورط في هذا الغلو، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم من حيدث حذيفة بن اليمان أنه(ص) قال:
يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدايتي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك». وفي رواية بزيادة: «إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله سلطان.
فقد دل نصّ هذا الحديث على أنّ مجرد شرود الحاكم عن هدي القرآن والسنّة
لا يعدّ كفراً، ومن ثمّ لا يستوجب الخروج عليه، وإنما يشرع الخروج عليه بالكفر البوّاح أي الصريح الذي لا يحتمل أي تأويل، والذي يملك الخارجون عليه حجّة مقبولة عند الله يوم القيامة.
ثم إنّ هذا الغلو في التكفير، يسري إلى غلو آخر شر منه، وهو الحكم بالكفر ومن ثمّ بالقتل على كل من تورط فقدّم نوعاً من المعونة لمن سبق الحكم عليه مزاجياً بالكفر!
إنّ هذا الصنف من الناس يحكم عليهم حكماً شمولياً عاماً بالكفر، بحجة أنهم أعوان الظلمة ومن ثم يهدر دمهم ويلاحقون بالقتل بمختلف الوسائل وفي كل الأحوال.
)الممتحنة:1)؟.?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة?فما هو الدليل على مشروعية هذا الحكم من القرآن أو السنة، أو من أي من المصادر الفرعية الأخرى للشريعة الإسلامية؟.. بحثنا، ونقبنا، فلم نجد إلاّ ما يناقض هذا الحكم ويفنّده. وحسبنا من ذلك موقف رسول الله من حاطب ابن أبي بلتعة الذي ذهب في تقديم العون إلى الحربيين من مشركي مكة، إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه مدّ يد العون للظلمة المشركين.. فقد عفا عنه(ص) ولم يكفره ولم يقتله. بل إن قرآناً نزل بشأنه معاتباً له ولأمثاله دون أن ينزع عنه سمة الإيمان، بل ثبتها له ونعته بها. ألم ينزل في حقه قول الله عزوجل:
فإذا لم يكن هذا الذي أقدم عليه حاطب ابن أبي بلتعة، من إبلاغه المشركين في مكة ما قد عزم عليه رسول الله من حربهم، كي يأخذوا لأنفسهم العدة ويتهيؤوا للنزال، موجباً لتصنيفه مع الكافرين، فكيف وبأي وجه يصح أن يصنف من يسمون اليوم بالشرطة أو الدرك أو الجنود والموظفين داخل دولة إسلامية، مع المرتدين، ثم يفتى بقتلهم واغتيالهم، وهم يعلنون في كل يوم وفي كل مناسبة إسلامهم؟!.. وإذا لم يجز الخروج بأي أذى على قادتهم، لما سبق أن أوضحت، فكيف يجوز التصدي بالقتل لأعوانهم؟!
(هود:114).? إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ?لا يصح أن يقال: ربما كان الشافع لحاطب ابن أبي بلتعة أنه شهد بدراً، إذ إنه(ص) أشار إلى ذلك، لأن شفاعة العمل الصالح للمتورط في المعصية ليست محصورة في عمل بعينه كشهود غزوة بدر. بل ما أكثر الأعمال الصالحة التي تشفع لأصحابها يوم القيامة. وصدق الله القائل:
ومما يدخل في باب التكفير العشوائي الجماعي الذي يجنح إليه الغالون والمتطرفون، تكفيرهم لكل من خالف قناعاتهم الاجتهادية في مسائل العقيدة، لاسيما تأويل آيات الصفات… يتبع.