عودة العقل.. من سرداب التخلف إلى فضاء التمكين

من بين سائر المخلوقات ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل، به يستطيع التمييز بين الحق والباطل، بين الحقيقة والخرافة، بين ما يصلح الإنسان وما يعطله إمكانياته، وبين النافع والضار.
وما حصدته البشرية عبر الحضارات المتعاقبة حتى العصر الحديث من حروب وصراعات وجرائم يندى لها الجبين، إلاّ لعدم تحكيم العقل وغيابه عن الأحداث بل وغيابه عن التفكير في الأفعال وعن الأقوال.
وباستخدام العقل وعودة الإنسان إليه تتجلى فكرة القبول بالآخر ومعرفة ما لديه من أفكار وفلسفات والتعرف عليها ومزجها بالأفكار المحلية وإعادة إنتاج ثقافة جديدة ومتطورة، ويسهم أيضاً في ربط ثقافات العالم المختلفة بعضها ببعض، وحتى التفكير الفلسفي التي اشتهرت به الحضارات الحديثة لابد أن يكون العقل حاضراً وفاعلاً ومؤثراً.
“عودة العقل” كتاب للأديب عصام القيسي أعادت صداره الهيئة العامة للكتاب في العام 2013م بعد أن صدرت الطبعة الأولى منه قبل ذلك بثلاث سنوات، والكتاب هو عبارة عن مقالات مختارة من المقالات التي نشرها الكاتب في عدد من الصحف اليمنية لسنوات ماضية، يطل من خلالها القارئ على موضوعات شتى في الدين والفكر والتاريخ، وإن كانت عناوين هذه المقالات متغايرة إلا أن أنها تصدر عن روح واحدة، تسري حرارتها في أصابع القارئ كلما لامس أحرفها وتصدر عن عقل واحد، شغلته الحقيقة عن حقوق صاحبه في السكينة والمنفعة الدنيا، وارتضى في سبيلها السير على الأشواك وابتلاع النار فهي أغلى محبوباته في الدنيا وأسمى ما يلقى الله به الآخرة.
وإن كان الكاتب قد عانى الكثير من الانتقادات عند نشره لهذه المقالات وتسببت له الأذى، إلا أنه واصل تحديه وقام بنشر هذا الجهد المتفرق والمتواضع تحت عنوان واحد وهو “عودة العقل” وكان اختياره لهذا العنوان له دلالته بما تعنيه هذه العبارة من دلالات الحضور والغياب وبما تحمله من دلالات التفاؤل والأمل.
في مقدمة الكتاب يقول المؤلف أن العودة تنطوي على معنى الغياب وقد غاب العقل عن ديارنا حتى ظننا أنه لن يعود، غاب العقل بوصفه حركة استدلالية من المقدمات إلى النتائج وغاب بوصفه جهازاً رقابياً على نشاطنا الفكري، فغيابه أخلى الساحة للوهم والخرافة يعملان فينا على شاكلتهما ويتسببان في تقويض حياتنا وأحلامنا ومصادر القوة فينا فكانت النتيجة هزيمة حضارية كاملة الدسم.
ويضيف: وإذا كان صحيحاً أن العقل قد غاب عن ساحتنا زمناً طويلاً، فليس صحيحاً أنه قد مات واستراح فقد ظل يتحسس طريقه في ظلمات الجهل والاستبداد، ويطل برأسه بين الفينة والأخرى، ليصيح صيحة في النائمين ويشعل شمعة للسالكين قد تصل شرارتها إلى طرف ثوب من أثواب الزيف فتحرقه، فعودة العقل هنا هي دعوة وأمل أكثر منها واقع وعمل بوصفه المهديُّ والمخلص الحقيقي الذي سيخرجنا من سرداب التخلف والخلاف إلى فضاء التمكين والاستخلاف.
ويشهد التاريخ أن حضارتنا العربية والإسلامية حين وصلت إلى أوج توهجها كان العقل هو الطريق الذي سلكه علماء العرب فأخذوا نتاجات من سبقهم من علوم ومعارف وتجارب من اليونانيين والصينيين والهنود فهضموا تلك العلوم والمعارف والتجارب والفلسفات وأحكموا فيها العقل، وأعادوا إنتاجها بعد إضافتهم لها، فكانت النتيجة أن أشرقت الدنيا بما أنتجوه وخلفوه من تجارب ومؤلفات وأفكار جديدة في ميادين العلوم المختلفة ووضعواً أسساً للعلوم الحديثة التي أنارت عصر النهضة الأوروبية التي استفادت من ذلك وعلى أساسها بدأت الحضارة الحديثة.
أما في عصرنا الحديث فقد غاب العقل غياباً مؤثراً عن المشهد السياسي العام في عدد من الدول العربية، وبرز إلى السطح عدم تقبل الآراء المخالفة أو النقد البناء، وتدخلت السياسة في كل شيء حتى فرقت بين الأصدقاء والأقارب وزادت من حدة ذلك في الخمسة الأعوام السابقة، فاندلعت الصراعات المسلحة بدلاً عن التنافس السياسي في ظل قانون يحكم الجميع والقبول بالأفكار والآراء المخالفة والاحتكام إلى الصندوق، كما بزغت الخلافات الطائفية والمناطقية والجهوية والقبلية فاستفاد أعداء هذه الأمة من كل ذلك، فهل يوجد ثمة أمل في عودة العقل في مجتمعاتنا العربية؟

قد يعجبك ايضا