فرسان في زمن الانبطاح

هذا هو عصر الانحدار بامتياز .. كل شئ يتراجع وينحدر إلى قعر سحيق, المبادئ ذابت أمام بريق العملات الملونة والنقد دخل في ماخور الهرج والمرج, والأخلاق تبخرت أمام الوعد والوعيد وهالة الإعلام واستعراض العضلات .. مُسخت الرجولة ومعاني العزة بالنفس .. تحولت إلى فرشاة لتلميع جزم صاحب المال, اقتيدت الحضارة الإنسانية إلى مزاد علني دونما حياء أو حشمة.
لا تقل لي كان وكنا, لا تقل لي (مشي حالك) أو ماذا نعمل أمام هذا العري العربي والدمامة العالمية وصفاقة نخاسيها .. لا تقل لي كنا قد وصلنا إلى درجة كذا ووضع كذا.. لا تسرد لي حكايات الزمن الغابر المشكوك في حقيقته وما كان عليه واقعه, لا تصدع رأسي بنظريات وتفلسف لي ما يوزن اليوم في برصة العالم المتوحش.
أحذرك من أن تزج بكلمات عن العقلانية والمنطق وما شابه لأن ما نعيشه خارج وبعيد عن كل ما تعلمناه وما لقنه لنا المعلم وقرأناه في بطون الكتب وتشبعنا به في حكايات التاريخ المجيد الذي لو عدنا إليه بعين فاحصة فإننا سنكتشف ونصطدم بأنه غير مجيدٍ وغير منصف.
لا تحدثني اليوم عن المشاريع المستقبلية والحياة الآمنة والقذائف تنهال على رأسي, وجيراني يدفنون تحت الأنقاض كل يوم, لا تقل لي الحياة جميلة, لأني أعرف أنها كذلك وأعرف أيضاً أن لجمالها ثمناً يجب أن ندفعه, لا تقل لي الجنة والنار لأن جنتي اليوم مفقودة ووحدها النار تلفح وجهي صباحاً ومساءً.
لا تقل لي بأن الأوضاع زادت سوءاً وأن الأسعار (مولعة) لأني أعيش كل ذلك, لا تقل لي أن بعض السلع قد اختفت, لأني أعرف ما يعنيه الحصار, لا تسألني عن الحل لأن, القيادة الحالية مشتتة الفكر بين متابعة الجبهات المتعددة وبين توفير سبل الأمن لنفسها, وعالقة في حبائل موقف المجتمع الدولي الذي أدار ظهره لهذا الشعب.
لا تسألني عن الخبر الجديد أو القدر لأن القدر ماثل أمام عيني والموت يتجول في كل مكان, ضاحكا وهازئا بأنين وأوجاع أناس قرروا أن يتعايشوا معه على مضض!
لا تستغربوا الحالة فكلما أمعن العدو في قتل أبناء هذا الشعب كلما ازدادوا عزيمة على رفض الإملاءات وفرض إرادة المعتدي المدجج بأحدث وأشرس آلات القتل والتدمير.. لا تستغربوا لأن محاولة فرض ما لفظه هذا الشعب وأخرجه من معدته نجيعاً لا يمكن أن يلاك أو يبلع من جديد, لأن الكلاب وحدها من تأكل نجيعها.
هموم أبناء اليمن كبيرة بكبر قامتهم التي ترفض الانكسار والإذلال, وربما لأنهم كذلك يرفض العالم أن يلتفت إلى محنتهم حتى لا يشعر بالدونية والقزمية أمام عظمتهم ورجولتهم, ليس هناك تفسير آخر لهذا الموقف اللاإنساني غير هذا.
كم هائل من القضايا الإنسانية, وكم أكبر من الظلم واقع على رؤوس أبناء هذا الشعب الذي كان يهب ويرفع صوته ويمد يده لكل من تعرض لخذلان أو ظلم, لم يقل يوما أو يحسب المواقف وفق رؤية المكسب والخسارة, سواء على مستوى السلطات الرسمية أو على مستوى الموقف الشعبي, خسر بسبب ذلك الكثير وتحمل تبعات تمسكه بأخلاقياته وقيمه وإنسانيته, دون أن يكترث لما فاته من مكسب لو أنه باع أو تاجر بالموقف والمبدأ السامي والإنسانية, التي تباع اليوم في بلاط القصور أو يتقرب بها لدن أصحاب السعادة والسمو  وتقدم جواري لصاحب المال.
لا تنتظروا من هؤلاء الأشبال الذين يتدافعون إلى الجبهات لا يحملون على ظهورهم غير الرغيف الجاف وشربة الماء وبنادقهم, التي يعولون ويعتمدون عليها في مقارعة احدث الطائرات والبوارج والصواريخ.
تركوا مقاعد دراستهم أو هي من تركتهم بفعل ما تعرضت له من دمار وحمم القذائف التي تتساقط في كل لحظة على مدارسهم وجامعاتهم, ومنازلهم وأسواقهم ومستشفياتهم ومصانعهم.
ليسوا هواة قتل وسفك دماء وليسوا فاشلين أو باحثين عن مكسب أو منصب …. إلخ, من هذه الحرب العبثية التي لا غاية لها ولا هدف موضوعي, ولا تعدو كونها رغبة في تركيع شعب يأبى أن يضام.. ليسوا حمقى – كما يقول البعض – لأنهم يحملون (الكلاشنكوف) في وجه أحدث المدرعات ويسيرون تحت هدير الطائرات الأحدث على مستوى العالم.
ولكنهم مجبرون .. مكرهون على كل ذلك, لا تسألوني ما الذي أجبرهم, لأن من يطرح مثل هذه الأسئلة أما غبي أو متغابي أو شريك في العدوان الهمجي الذي يتعرض له أهله وأبناء بلده.
في وضع كهذا لا تحسب الخسائر كما لا تحسب المكاسب .. في مثل هذا الوضع كل الحسابات تنصب على كيفية لجم هذا الجنون وكبح جماح هذه الآلة التي توزع الموت في كل مدينة وحي وزقاق .. في مثل هذا الوضع, الأولوية والحسابات تعمل لتوزيع الجهد بين جبهة القتال وجبهة التطبيب والمواساة لمن أصيب.
في وضع كالذي نعيشه تصبح الأولوية والاستعداد للتضحية, يليها الاستعداد للتسامح فيما بيننا كشعب يجمعنا المصير قبل أن يجمعنا المعتقد أو الانتماء الجغرافي, فلا تسألني عن منطقتي أو مذهبي أو أي شيء يميزني عن غيري لأن كل ذلك يجب أن يختفي, وفقط المصير وحده ما يجب أن لا ننساه أو يغيب عن أذهاننا وأفعالنا وكل نشاطنا, حتى لا نتحول عن واجبنا الأساسي المتمثل في الدفاع عن البلاد والعباد الدفاع عن حياتنا ووجودنا ككيان ملتحم يدرك ما يتعرض له وما يتهدد صيرورته.
وهنا وفي مثل هذه الحال لا مكان للتفلسف أو المواربة فقط بالعمل تعبر عن نفسك وبالموقف تعلن عن حضورك وبما تقدم تحدد مكانك ومكانتك, بعض وربما القليل مما تركه الأسلاف يصح أن ترجع إليه للاستفادة واخذ العبرة والعظة..
لا تسمح لأحد أن يأخذ الأولوية في حياتك،
عندما تكون أنت خياراً ثانوياً في حياته…

قد يعجبك ايضا