جميل مفرح
في زمن لم تعد له من نكهة غالبة سوى نكهة النار والموت ولا من ميزة أبين من زعزعة أمن الأرواح واستقرار الأنفس لدى شعوب أنهكها القلق والتأزم ومادت بها أرض الواقع ليظل الرعب هاجسها والتشاؤم ثقافتها وضيق الحال الناتج عن كل ذلك معاشها اليومي.. وفي منطقة ينام السواد الأعظم من أهلها وهم يترقبون الأسوأ ويستيقظون وهم ينتظرون الأبشع.
في زمان ومكان كهذين.. تشكل لمحات الأمل وإن كانت ضئيلة ثروة فاحشة، وتغدد الابتسامة وإن كانت باهتة قطرات مطر على هجير أحوج ما يكون واليها.
وهذا التوصيف باعتقادي هو الأقرب إلى ما فعله مهرجان أثير للشعر العربي الذي استضافته الأنيقة الوادعة مسقط عاصمة سلطنة عمان الشقيقة.
ولعل من أبرز ميزات مهرجان كهذا أنه يتحدى الواقع ويكسر رتابته ويأتي حيث لا يتوقع أن يأتي شيء كمثله.. ومن جنسه تحديداً.
إذ يطل هذا المهرجان ليمثل تعويضاً لكل خسارات الإبداع والمبدعين التي عاشها ويعيشها الوطن العربي في الفاصلة المخيفة الراهنة.. وفي طور يمكن وصفه بالكمون والتراجع وفي طريق التلاشي بالنسبة للرقم الإبداعي ونتاجاته.
نعم يأتي في توقيت تراجعت فيه المهرجانات والفعاليات المماثلة وحتى الشهير والكبير والمهم منها.. ليمثل بارقة أمل في أن تظل الكلمة منيرة وإن في طور المحاق، فذلك أكثر أمناً وضماناً من أن تلفنا الحكلة المطلقة ويلفظ الإبداع أنفاسه في زمن يجب أن يكون مكانه ومكانتها أرفع وأسمى وأكثر وجدوى ووصلاً وانتشاراً، خصوصاً مع تدد أدواته وقنواته وسهولة التعامل معها والحصول عليها.
فما بالك أن يمثل هذا الحدث قمراً مكتملاً أدى ويؤدي دوراً لم تعد طاقات الإبداع والقائمين عليه أن تؤديه ليس لشحة في إمكانات أو لعجز قدراتي ما، بقدر ما يبدو وكأنه فعل متعمد لقتل ما تبقى في الطبيعة من ملامح جمال وحب وخلق وإبداع وإن في إدنى مستوياتها.
السفر إلى مسقط الصغرى
صعوبات جمة وعراقيل متلاحقة كانت تتوالى عليَّ منذ أن تواصل بي صديقي الرائع الشاعر العماني الجميل عبدالله العريمي ليبلغني بنبأ هذا المهرجان ودعوتي إليه.. وعلى الرغم من كل تلك الصعاب والعراقيل وللأسباب المذكورة أعلاه كان لا بد من إيقاه ما أمكن من طاقات التحدي للمشاركة في حدث كهذا وهو بالفعل ما حدث رغماً عن سوداوية الواقع واحتمالات التعقيد التي قد تعترض بعضاً من المشاركين ومنهم أنا الذي يرزح وطني الغالي تحت وطأة العدوان وتفوح من أزاهيره رائحة الدماء.
على الرغم من ذلك عملت شخصياً بكل طاقاتي لأكون جزءاً من ذلك المهرجان ولتكون اليمن حاضرة ومعلنة عن أنها ما تزال تحتل حاضرة الوجود, بل وتميد بها، فما كان من حقيقة سفري إلا أن تحزم بعد حزمت قبلها عزيمتي وإصراري وفي مقدمة ذلك ومشعلاً له إصرار الصديق العزيز الشاعر عبدالله العريمي الذي كرر وردد في أكثر من اتصال وسالة ضرورة حضور اليمن في هذا المهرجان، وهو بالفعل ما شكل واحداً من أهم الدوافع المشجعة على عقد العزيمة على السفر والمشاركة.
الرحيل إلى مسقط الحب
كنت في مفتتح الصفحة الأولى للمهرجان يسبقني سوى قحصان يوسف محعولة على طبق من الإبداع المدهش والملفت للذائفة والتقدير، جاد بها ذلك الشاعر الجميل الذي تمر السنوات وهو ما يزال ذلك الشاعر الفتي المذهل.. إنه الشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع الذي استطاع أن يمثل بوصلة حددت اتجاه المهرجان وما يمكن أن يقدم فيه من إبداع.. كانت تحيتي كلمة موجزة قبل البدء شقلت رسالة للوطن الحبيب تتفتح جراحه للمجهول والمعلوم كما كانت في ذات الوقت رسالة حب وسلام من اليمن الكليم إلى الشعر والإبداع, إلى العروبة والإسلام، بل إلى الإنسانية باتساعها واتجاهاتها.. كلمات بسيطة حملت أحزاناً غائرة وفي نفس الوقت أنفة وعزة الإنسان اليمني كما وصفها أحد الأصدقاء المشاركين في المهرجان.
الرحيل إلى مسقط الشعر
الشعر أعلن حضوره القوي والطاغي.. الشعر الصافي الحقيقي الباحث عن آفاق جديدة ومتجددة، اتضح من خلال ما قدم خلال أمسيات المهرجان, ومنذ الوهلة الأولى التي غرد فيها الشاعر اللبناني شوقي بزيع كفاتحة للمهرجان، اتضح أنه مهرجان الشعر الحقيقي إذ لم يكن من كل الشعراء المشاركين إلا أن يسيروا في ذات المسار العالي.. منذ اللحظات الأولى بدأ الشعراء وكأنهم يتحملون مسؤولية التبعيد ليس عما يخطر في البال من قضايا ومشاعر وموضوعات وتناولات، ولكن عما وصلت إليه الكتابة من آفاق جديدة، وما استطاعت وتستطيع القصيدة العربية أن تقدمه من منجز إبداعي على مختلف مستويات ونواحي الكتابة فنياً وموضوعياً أيضاً.
وقد ساعد على ذلك كثيراً الدقة العالية من قبل إذدارة المهرجان في اختيار الأسماء المشاركة في هذا المهرجان كشعراء ونقاد من دول عربية عديدة مثلت في فعالياته بأسماء و……. الحضور والعطاء والمنجز المنصي والإبداعي ما يحقق نسبة نجاح عالية لفعاليات المهرجان.
منذ اللحظات الأولى قال الشعر كلمته وظل طوال فعاليات المهرجان يعنقها ويحسنها حتى اللحظات الأخيرة من مواعيده التي جدولها برنامج هذا الحدث الثقافي الإبداعي النوعي.. حضر الشعر صادقاً متدفقاً من صدور وقلوب بدت وكأننا لم تخلق لغير الشعر, وحضر أيضاً في طيات أوراق عمل قدمت خلال الجلسات النقدية التي تضمنها البرنامج.. فكان ـ أقصد الشعر ـ في هذا المهرجان كائناً يتنفس وينبض ويبتسم كثيراً لكونه محتفى به وبحضوره الطاغي والمتسيد للمكان والحدث.
ومنذ الوهلات الأولى بدأ الاحتفاء بغنائية وموسيقى ابتدأ من إطلاق اسم الخليل ابن أحمد الفراهيدي على هذه النسخة من المهرجان وهي الأولى.. ومنذ اعتلى الفراهيدي المنصة سابقاً للمشاركين في فلم وثائقي افتتحت بالسهرة الأولى من ههرات الشعر والكلمة التي تضمنها البرنامج.. وقد تميزت النصوص المقدمة من قبل المشاركين بكونها تعكسها اشتغالات فنية عالية وباهرة خصوصاً فيما يتعلق بالنسق الموسيقي للقصيدة وبالقافية أيضاً, وقد بدى ذلك متجلياً في مجمل ما قدم وقرئ من نصوص شعرية في أمسيات المهرجان.
المهرجان النص المتقن
تلك ما أعتبرها كلمات حق يجب الجهر بها في حق هذا المهرجان وفي أعتقادي أنها غير منصفة إلا أنها حاولت جهدها وقدر الإمكان والاستطاعة أن تكون كذلك.. فمثل ما كان في هذا المهرجان من فعل ثقافي وإبداعي وإنساني أيضاً، ومن دقة ومستوى عال في الجانب الفني والتنظيمي والإداري، نادر الحدوث في المهرجانات الثقافية والإبداعية والدولية.. وهذا يحسب بالطبع للمنظمين ولكل من تعاون وأسهم في إخراج هذا العمل الإبداعي المتميز.
وكما كان المهرجان مناسبة لحضور النص الإبداعي والاهتمام به من مختلف جوانبه، فقد كان في كليته وعموم تفاصيله نصاً متقناً بعناية فائقة إبداعية الأخوة العُمانيون ببراعة فائقة تفرض علينا أن نتمنى أن يواصل هذا المهرجان ألقه مستقبلاً وأن تكون دورته هذه حجر أساس لمهرجان أجزم بأنه ومنع قدمه الأولى في مكانها الصحيح ليكون واحداً من أبرز مهرجانات وفعاليات ومناسبات الإبداع عموماً والشعر خصوصاً.
شكراً عُمان.. شكراً مسقط.. شكراً مؤسسة أيثر الشعر.. شكراً دار الفراهيدي الثقافية.. شكراً للشعر ولكل الشعراء الأحبة الذين أتبنوا جميعاً أن الشعر ما يزال يتنفس وما تزال لديه قدرات خارقة على البقاء وكل أمنياتنا أن يستمر ويتنامى هذا النجاح وستضاعف في الدورات القادمة من المهرجان.