في وداع مجاهد
أمة الرزاق جحاف
كانت تجلس في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه كل يوم، فيما جلس هو على الأرض أمامها، كان كل منهما ينظر في عيني الأخر بصمت، تأملته في ملابسه العسكرية، وجعبة المونة تتموضع في مكانها على جسده، وسلاحه موضوع على ركبتيه.
تأملته بحنان وكأنها تراه لأول مرة، وفي عمق نظرته المحبة، كان عقلها يغوص في الذكريات.. عبرت ستة وعشرون عاما في دقائق، كبر فيها يوما بعد يوم بين أحضانها وفي عينيها، وأوغلت في ذكرياتها تستعرض طفولته،وشقاوة دراسته، التي ما عرفت معظمها إلا بعد أن كبر وبدأ في سردها عليها بين حين وآخر،فجأة. تناول يدها بين يديه، وبدأ يقبلها بمحبة، ويضعها على جبينه باحترام، وخرجت الكلمات من فمه هادئة، مرتبة، سامحوني يا أمي وارضوا عني، وادعوا لي، أنا خلاص قررت ألتحق برجال الله في الجبهة للدفاع عن ديني، ووطني، ضد هؤلاء المعتدين، و(جيت) أطلب الاذن منكم.
سكت وظل ينظر إليها، كمن ينتظر ردها، وهي كانت بين فكي كماشة بين الواجب الوطني،ومشاعر الأمومة التي تدفع بها لأن تلفظ في وجهه رفضها لطلبه موافقتها..نعم يجب أن ترفض طلبه رفضاً صريحاً، وكيف يمكن لها أن تأذن له، وهي التي كانت تراه محور أحلامها، وثمرة الصبر التي ظلت تنتظرها طويلا؟نعم
..كيف تأذن له، وهي ترى أنه الوحيد الذي لا يحق له الذهاب للجبهة؟ أصلاً لماذا هو بينما غيره من الشباب يملأون الطرقات والبيوت والساحات العامة؟كيف يريدها أن تأذن له وهو يدري أنه أول الحلم الذي تعبت من أجله كثيراً؟ واستمرت في هواجسها وهي تنظر إليه، وثمة قطرات من الدمع توشك أن تتساقط من بين أهدابها.
ولعله أدرك ما كان يجول في خاطرها، فقال مبتسماً: أماه أنت تعلمين أكثر من غيرك أن الموت والحياة بيد الله وحده، وأنه لن يصيب الإنسان إلا ما قدره الله عليه، أنهى عبارته وسكت .. بينما طافت بخاطرها مئات المواقف والقصص التي وقعت حوادثها على مقربة منها، أو وصلت إلى مسامعها، عن أشخاص توفاهم الله دون أن يكون لموتهم أسباب مقنعة تكفي لأن يغادروا الحياة، وعن أشخاص أفلتوا من الموت دون أسباب مقنعة تكفي لبقائهم أحياء، وأن منطقية الحياة والموت، لا يملك البشر – مطلقاً- تبريرها
أدركت أنها أمام امتحان صعب، ما خطر على بالها أنها ستواجهه أبدا، وها قد جاء الوقت الذي ما توقعت مجيئه ، صحيح أنها كانت دائماً تقول للآخرين: نحن لن نتردد في تقديم أبنائنا وآبائنا وإخواننا للدفاع عن الوطن، وأنها قالت لجارتها ذات يوم حين استشارتها في موقف مماثل: شجعيه على الذهاب فلو كل واحدة منا منعت ابنها من واجب الدفاع عن الوطن سيضيع الوطن، لكنها في الحقيقة – وهي تقنعها بذلك – ما توقعت أبداً أن تقف هي نفس الموقف ، فهل كانت كاذبة في كلامها؟ وهل تقبل أن تكون من المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون؟
وهنا كانت قد اتخذت قرارها، فانفرجت شفتاها عن ابتسامة لا تدري إن كانت حقيقية، أو مفتعلة. وقالت له بسكينة لا تدري من أين تسللت إلى نفسها، ودعتك الله الذي لا تضيع عنده الودائع، وما إن توارت قامته الفارعة من فتحة الباب، حتى رفعت وجهها إلى السماء مرددة، من يدي ليدك يا أرحم الراحمين تحفظه وتحميه، هو وكل المجاهدين، وتثبت أقدامهم، وتسدد رميهم، وتنصرهم
على كل معتدٍ وباغٍ وظالم.
ومنذ رحيل ابنها لتلبية نداء الواجب- وهي تحرص كل يوم – بعد صلاة المغرب- أن تتابع إذاعة سام، وحين تصل الفقرة التوعوية التربوية، إلى دعاء الثغور، الذي يردده المبدع عبد العظيم
عز الدين، ترفع يدها بالدعاء فخورةً،لأن ولدها هو أحد هؤلاء المجاهدين، الذين ترتفع أكف معظم اليمنيين بالدعاء لهم في مثل هذا الوقت.