قراءة في رواية (طعم أسود..رائحة سوداء) لـ(علي المقري)

*فايز محيي الدين

(طعم أسود..رائحة سوداء) نقلت إلينا بلغة سردية جميلة وممتعة ما لم تنقله الكثير من الكتابات التي تناولت فئة المهمشين (الأخدام) ، وأشبعت الكثير من الفضول لدى مَن لا ينتمون لهذه الفئة المجتمعية بإعطائهم صورة شبه مكتملة إلى أبعد حد عن حياة (الأخدام) وطريقة معيشتهم اليومية وطرق تفكيرهم ونظرتهم لأنفسهم وللآخر، وكشفَت عن عنصرية لديهم تتشابه مع ما لدى الآخرين من حيث وصفهم للآخر بـ(أمبو) ولعلها كلمة ازدراء.
كما بيَّنت لنا مآسيهم التي ترافق معيشتهم ويكونون في الغالب ضحايا لها. وفي مقدمة ذلك قلة الغذاء وانعدام الصرف الصحي وندرة العلاج والوعي وانتشار الأوبئة التي تفتك بالكثير منهم في مقتبل العمر.
كذلك تناولت الرواية جانباً من المسكوت عنه عن حكايات غرامية تحدث بين أفراد من الطبقة السوداء وغيرهم، مثل ما حدث مع الطبيب الحكيمي الذي تزوج بإحدى الخادمات، وكذلك ما كان يقوم به الخادم سرور من مغامرات.
فضلاً عن الرغبة لدى جيل الشباب الأبيض في كسر حاجز التمايز بينهم وبين الأخدام بمحاولة الزواج من خادمات كما كان ينوي ابن صاحب المطعم الذي يشتغل فيه بطل الرواية (أمبو أو عبدالرحمن)، وكما فعل الطبيب الحكيمي وقبله المهندس.
كل ذلك كان نقلاً واقعياً لما يحصل بين الفينة والأخرى من زيجات تتحدى الواقع وتتمرد عليه.
لقد أمتعنا المقري بنقل بعض النصوص الغنائية والأمثال الخاصة التي يتداولها الأخدام. إلَّا أنّ حديثه عن تمدد المدينة بأبنيتها المسلحة واقترابها من محوى الأخدام والذي يهدد حياتهم واستقرارهم كما يهدد حياة واستقرار بطلي الرواية (الدغلو وأمبو) كانَ باهتاً ولا يشي للمتلقي أن الذي يتم السرد على لسانه هو فعلاً هذا الذي سيصبح بين عشيةٍ وضحاها بلا مأوى حين يتم جرف عشته وما حولها.
لم يستطع أن ينقل لنا الشعور الصادق لأولئك الأخدام ولبطلي الرواية حين الجرافات تقترب منهم وتهدد استقرارهم لكي يُجبر المتلقي على معايشة الحدث كواقع والتعاطف معه كما يفعل الروائيون المحترفون وكما فعل هو ونجح في تناوله لقضية تهجير اليهود من اليمن في رواية بخور عدني.
والأنكى من ذلك ابتساره للخاتمة وترك الرواية قرعاء لا نهاية لها مناسبة، فضلاً عن عدم إشباع فكرتها وشخصياتها بالتناول الذي يكفل تفاعل المتلقي معها ورسوخها في ذهنه كحكاية واقعية لا تُنسى. فيتبدد لديك ذلك الجو البديع الذي أضفاه جوهر القصة وحدثها الأساس.
بداية القصة جاذب جدا وموضوعها فريد ونادر التناول في الأعمال السردية، لكن خاتمتها تدل على أن السارد لم يتمكن بعد من الغوص في هذا الفن الأدبي. ويتجلى ذلك بوضوح من خلال نَفَسِه القصير في الوصف أو سرد الحكاية أو تنامي أحداثها.
ولهذا لم يكن موفقاً في الخاتمة التي بدت مقتضبة لا توحي للمتلقي بأنّ ثمّة حبكة روائية متقنة أو فن مكتمل. فقد بدت لنا الرواية كقصة لم تكتمل، إذ لا تعدو عن كونها قصة تتناول شخصيتين رئيسيتين (الدغلو وأمبو أو عبدالرحمن) فيما بقية الشخصيات ثانوية.
وكذلك لم يُعطِ النَّاص لشخصيتيه الرئيسيتين كامل الملامح لتتضح لنا من خلالهما أبعاد الصورة لمرحلة وزمن الرواية التي دارت فيها الأحداث. وهي مرحلة زمنية حرجة ومهمة في تاريخ اليمن المعاصر، حيث اشتبكت فيها وتداخلت الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، خاصة في ظل احتدام الصراع بين شطري الوطن في الفترة 1975-1982م.
وكان للناص السبق في تناولها سردياً، لكنه وأدَ العديد من مظاهر الحياة التي كانت ستثري القصة لتصبح رواية تفصيلية تنقل لنا صورة متكاملة عن زمنها وأبرز أحداثه.
لم يتطرق المقري سياسياً لمقتل الغشمي والحمدي ولا للصراع بين شطري الوطن آنذاك، خاصة حرب 1979م وما تلاها رغم أهميتها، مما كان بإمكانه إثراء الرواية. ولا توسع بشرح حروب الجبهة الوطنية وما خلفته من مآسٍ ودمار لا تزال آثاره حتى اليوم في الأرض وفي النفوس.
أما الأخدام الذين هم أساس الرواية والفكرة التي انبنت عليها الأحداث فقد كان موفقاً إلى حد كبير في شرح تفاصيل حياتهم وما يُقال عن تاريخهم وما تم كتابته حول ذلك. كما لم يُغفِل التطرقَ للطبقات الاجتماعية التي كانت ولا تزال سائدة حتى اليوم، والتي تتحدث عن بني الخُمس وهم الجزارون والمزاينة والدواشين والدباغين والحمَّاميين وغيرهم من أصحاب الحرف الدنيا. بل كانت هذه الطبقة هي الفكرة التي ولجَ منها المقري إلى عالم الأخدام الذين يعتبرون الفئة الـ مادون بني الخُمس. وقد أحسن اختيار شخصيته الرئيسية (الدغلو) ، ليواصل معها (عبدالرحمن أو أمبو) المسيرة في أحداث الرواية عبر الهروب معها من القرية والالتحاق بركب محوى الأخدام في ضاحية عصيفرة بمدينة تعز قبل أن يصلها العمران.
ومن هناك تبدأ أحداث الفكرة الرئيسية للرواية عن شريحة الأخدام ومعاناتهم وطريقة حياتهم وعيشهم وآمالهم وآلامهم وأحلامهم. وكان جميلاً ومشوقاً وهو يشرح ذلك العالم الذي يكاد يكون مجهولاً حتى لمن يعيش بالقرب منهم، باعتبارهم أدنى الفئات الاجتماعية التي تنبذها كل الطبقات.
تطرقه لقضية المغتربين ومعاناة زوجاتهم هي بحد ذاتها فكرة رواية جميلة سيكون لها صدىً واسعاً إن أحسنَ حبكها، ومع ذلك فقد طرقها ببخلٍ شديد لم يُعطِ لها حتى أدنى خربشات لوحة يستطيع المتلقي تأملها، وكان بإمكانه الإسهاب فيها وإعطائها ما تستحقه كونها مرتكز أساس للفترة الزمنية التي تتناولها الرواية، والتي لم يكد يخلو بيت في اليمن آنذاك دون وجود مغترب منه. وهو ما بدأ يتشابه مع ما نعيشه اليوم في ظل تنامي الهجرة نتيجة الحرب وما سبقها من أزمات متلاحقة.
الفترة الزمنية للرواية من 1975م-1982م تعني أنّ شمال الوطن شهد تولِّي أربعة رؤساء الحُكم، ووثلاثة في الجنوب، مع ما رافق ذلك من أحداث جِسام، ومواكبة في التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية أيضا. ومع ذلك لم نرَ مما باح َ لنا به المقري سوى القشور. ليخرج بعدها المتلقي بصورة ضبابية عن تلك الفترة كما خرج من المجتمع المحيط بمكان الرواية وهو مدينة تعز والقرى المجاورة لها.
ورغم أنّ منطلقه في سرد الرواية كان من القرية إلَّا إنه لم يُعطنا من ملامحها إلا الشيء اليسير، ومر عليها مرور الكرام، كما هي عادته حين يتطرق لمواضيع مهمة ثم يغادرها سريعاً دون أن يتناول تفاصيلها أو يرسم ملامحها كاملة، الأمر الذي يصدم المتلقي ويشعره بخلل المشهد وارتباك الصورة.
ختاماً نود أن نشير إلى أن زمن طباعة الرواية الذي هو عام 2008م ربما هو الذي كان عائقاً للروائي في التوسع بأحداث فترة زمن الرواية أو التعمق فيه، بسبب أن أقطابه كانوا لا يزالون في السلطة بكامل قوتهم وجبروتهم. لكني أرى أنه بإمكانه تجاوز كل ذلك الخلل والنقص الذي اعتور الرواية لو أعاد كتابتها مستوعباً كل الأحداث التي دارت في زمن الرواية دون مواربة أو خوف. وبذلك يخرج لنا بعمل روائي مكتمل عن فترة شائكة من أهم الفترات التي عاشها اليمن بشطريه آنذاك.

faiz444888@gmail.com

قد يعجبك ايضا