عن حديث “الجنرال” وهوية المنطقة!
في حديث الجنرال العجوز علي محسن؛ قبل أيام لصحيفة سعودية؛ ما يستحق التوقف طويلاً، والتمعن في مضمونه الصاعق، نظراً لما احتواه من اعترافات خطيرة وهجوم عنيف وكشف فاضح لمواقف ووجوه ظلت خافية على عامة الناس وبعض النخب، وبالذات من يتشاركون مع الجنرال ويقفون اليوم في خندق واحد، ثمة تيارات قومية ويسارية وليبرالية لم يقدّر الجنرال مشاعرها في حديثه؛ أو يُراعِ انتماءها مطلقاً، وفقاً لمقتضيات الحصافة وأخلاقيات الشراكة على الأقل!!
فقد أزاح القناع لأول مرة عن وجهه الإسلاموي وموقفه المتشدد من الفكرة العروبية، معترفاً بمشاركته في إجهاض الأحلام القومية التي أسماها “شطحات”، وداعياً إلى تصفية المنطقة العربية من “الصفوية” مثلما تم تطهيرها من آثام القومية!!
كأي عروبي معتز بتجربة “ناصر” التحررية؛ فوجئت بصديق ذي ميول يسارية؛ وقد أصيب بالصدمة وانتابه الذهول أثناء قراءته كلام الجنرال، كمن يكتشف لأول مرة حجم العداء الذي يحمله “اللواء” للزعيم الخالد جمال عبدالناصر!!
قال صديقي بمرارة- ونحن في مقيل سياسي محتدم: “كيف يشوه الجنرال فكرة العروبة بهذا الحقد، ويسيئ لزعيم عظيم مهما كانت أخطاؤه؟ ماهو رصيد الجنرال من النضال التحرري ومقاومة الصهاينة حتى يتحدث عن رجل ليس له من تهمة سوى انه كان يدافع عن عروبته؛ وعروبة المنطقة؛ وكرامة العرب- مثلما يدّعون اليوم دفاعهم عن عروبتها أيضاً في اليمن؟؟
المشكلة ان الجنرال لايعلم عن من يتحدث!! عن قصة كرامة كان زعيمها رائداً لوحدة عربية في الستينات، والمطلوب رقم واحد في خمسينات العدوان، والعدو الأشهر للتبعية الغربية، بل والزعيم الوحيد الذي كان له شرف القتال ضد اسرائيل في أربعينات النكبة، جندياً ببندقيته؛ مدافعاً عن فلسطين ومصاباً في الفالوجة؛ قبل أن يصبح رئيساً!! فهل مثل هذا متهم؟ أم هؤلاء المنبطحون الذين عجزوا عن ملء الفراغ منذ رحيله وسلموا المنطقة للتبعية وصراع الأقطاب؟
ليس هذا فحسب، بل يتنكر الجنرال لقومية العرب بكل هذا الجحود، متناسياً أنه يقاتل اليوم ضمن تحالف يُفترض أنه “عربي” ويتدخل في اليمن بدافع “قومي”، بل تحالف يقال أنه يدافع عن “عروبة” اليمنيين؛ والأمن “القومي”؛ والهوية “العربية؛ حسب ماجاء في أهداف ومزاعم “العاصفة” ومبررات حلفائها؟؟.. ثم هل نسي الجنرال أن لديه شركاء يساريين وقوميين لن يتحملوا مطلقاً تلك اللكنة الإسلاموية التحقيرية في حديثه والتجريح المباشر لتياراتهم؟؟
وتابع صديقي: “اجزم ان هذا الهجوم على التجربة العروبية ليس كلاما اعتباطيا من الجنرال، بل محاولة لدغدغة مشاعر الجوار الناقم على فكرة التحرر، أو ربما رسالة خليجية موجهة من خلاله لكافة التيارات اليمنية لخلع ايديولوجياتهم، والقبول بالعقال الأصولي الإسلاموي؛ الجاري فرضه على المنطقة لملء الفراغ؛ كزعامة قادمة؛ بقوة المال!!
خلاصة القول، يبدو أن أنف ناصر لم يغادر ذاكرة الأشقاء، ومايزال شبح التحرر والمواقف العروبية المستقلة وعقدة الزعامة تعشش في مخيلتهم.. ولم ينسَ الإسلامويون ثأرهم من الرجل حتى بعد نصف قرن على رحيله.. ولن يتركوه حتى يطمسوه من ذاكرة التاريخ والأجيال.. بدليل أن معركتهم اليوم يُفترض أنها ضد العقدة “الصفوية” في المنطقة.. إلا أنه لامناص من إقحام العقدة القومية في أحاديثهم وصب اللعنات على حقبتها.. حتى في إعلامهم المرئي، ثمة برامج وثائقية وحوارات جدلية نشاهدها من حين لآخر؛ لا تخلو من محاولة تشويه وإساءة ضمنية لتلك الحقبة الذهبية ومدها التحرري.. ليس لأنها حبلى بالأخطاء.. بل لأن النمط الإسلاموي هو الوحيد الذي كان يستحق الحكم.. وماعداه لا يستحق الحياة!
لهذا رأينا كيف تم تلميع النمط “البديل” خلال السنوات الأخيرة بكل الوسائل والمغريات؛ حتى بوسيلة الثورات الربيعية، في محاولة لصنع زعامة مُسَيّرة؛ دون جدوى.. لكنهم لم ييأسوا بعد.. فظروف المنطقة اليوم يعتقدون انها في صالحهم.. لن يتركوا فكرة التحرر العروبي في ذاكرة الجماهير.. وما عجزوا سابقاً عن طمسه بسلاح التشهير والتشويه؛ يجري طمسه اليوم بعصا “العاصفة”.. وبريق المال.. لإعادة صبغ هوية المنطقة، بلون أكثر تبعية!