الغربي عمران
ناهدات ديسمبر:
الأقصوصة.. الومضة.. الاقصودة.. القصة القصيرة جدا. وغيرها من التسميات لفن جديد يغزو صفحات الفيسبوك وكذلك صفحات الصحف والمجلات.. هذا الفن الذي اختلف النقاد حول تحديد تسمية له .. لتتجاوز توصيفاته عشرات التسميات.. بل إن أحد النقاد المغاربة رصد أكثر من خمسين توصيفاً لهذا النص الفاتن والمدهش الذي يتماس مع القصة في حكاياتها ومع الحكمة في عمقها ومع الشعر في شفافيته وتكثيفه وصوره ومع النكتة في مفارقتها.. ومع المسرح في مشهديته.. ومع السينما في لقطتها ومع التشكيل في الرسم بالكلمات … إلخ ذلك من تماسات هذا الفن المشوق.
والملاحظ أن هذا الفن أخذ خلال العقد الماضي بالانتشار السريع وأضحى له مؤتمراته ومنتدياته القُطرية والإقليمية.. حضرت منها في حلب بسوريا وفي الناظور المغربية والشارقة والإسكندرية. وغيرها حيث برز في مجالها العديد من فرسان هذا الفن.. واستمع الحضور إلى ملخصات لمقاربات ودراسات نقدية عميقة وجادة.
المتابع لما يخص هذا الفن في الأقطار العربية.. سيلاحظ الاهتمام الواسع وتزايد من يكتبون هذا الفن.. وسنجد أن المشهد المغربي يأتي في المقدمة، كما أن كتاب هذا الفن أخذوا بالبروز من خلال إنتاجهم المتجدد والغزير في السعودية وسوريا والإمارات ومصر والعراق.. وله فرسانه وفارساته المثابرون.
واليوم بين يدينا إصدار جديد لأحد فرسانه.. مبدع مثابر ومتميز يراهن على هذا الفن.. بل ويكتبه دون غيره.. صدر له ثلاثة مجاميع ترجمت مجموعاته إلى الإنجليزية والفارسية .. كما ترجمت بعض نصوصه إلى لغات أخرى.
“ناهدات ديسمبر” هي المجموعة الرابعة للكاتب حسن البطران. والصادرة عن دار نوفا بلس.الكويت 2014م. وتضم مائة وثلاثة نصوص توزعت على مائة وخمسة وعشرين صفحة.
من يقرأ نصوص هذه المجموعة يدرك من الوهلة الأولى أن جل نصوصها موجهة للمرأة.. ولا أعني قضايا التحرر والمساواة والحقوق فحسب. بل إلى أدق التفاصيل الوجدانية والحياتية المشتركة مع الرجل. وفي تصوري أن موضوع “الجندر” الذي يثار أو تثيره بعض المنظمات الحقوقية الداعية إلى رفع مستوى مكانة المرأة اجتماعيا قد جاءت في هذه المجموعة بشكل أكثر قوة ومنطقية.
كما أن الكاتب ومن خلال هذه النصوص يدحض المصنفين للأدب بين أدب نسوي وآخر عام.. وذلك التصنيف تحت مبررات منها أن الرجل أكثر من يكتب عن الرجل.. والمرأة هي من تنصف المرأة في كتباتها وتتبنى قضاياها انطلاقا من مشاعر وأحاسيس لا تجيدها تجاه المرأة إلا المرأة.
سنجد أن هذه النصوص تغوص في عوالم المرأة وجدانيا حتى تتماهى الفواصل والحواجز التي رسمتها النصوص الدينية والقيمية الاجتماعية الشرقية .
إذ أن الكاتب صاغ هذه النصوص من منطلق إنساني وليس رجولياً متحيزاً.. فهي من الرجل إلى المرأة يراها إنساناً مكملاً له في هذه النصوص وليس مجرد تابع .. هي نصوص من إنسان إلى الذكر والأنثى.. بمشاعر مكتملة لا تميل إلى جنس دون آخر.. ولا من موقع الناظر إلى المرأة ككائن مختلف وناقص.. وككائن إنساني لا يزيد أو ينقص عن الرجل في العقل والمشاعر والأحاسيس. وهنا يمكننا إيراد بعض النصوص كأمثلة:
النص الأول بعنوان بحث: غصت عميقا بحثا عن سمكة.. وقال بعضهم هذا البحر لا تعيش فيه الأسماك!
والثاني بعنوان ليبرالية: يمشين في الطريق ترتفع أصواتهن.
إحداهن: صوت المرأة عورة .
مع هلال الشهر الجديد تظهر متبرجة على شاشة فضائية !
تذكر: أتذكرها وأحن إلى الخبز الذي أكلت منه العصافير.
ممر: تمشي في ممرات ضيقة.. عطرها يجذبه خلفها.. فجأة ..يقف خوفا من فقدان فتاة الرصيف.
نداء: لكي أراك.. اقترب مني أكثر.. ودع النهر خلفك.. وأمسك غصن الزيتون. هكذا كانت تخاطبه ..
هذه النصوص وعشرات النصوص التي تحفل بالمرأة ككائن موازٍ للرجل. بلغة شفيفة ومكثفة.
ولا مجال هنا لتقريب فكرة كل نص للقارئ.. فالنصوص تزيد عن المائة نص.. وتفرد نصوص المجموعة تحتمل العديد من التأويلات وأوجه المعنى. إضافة إلى أن الكاتب صاغها بلغة مكثفة جدا ما تؤدي إلى تعدد القراءات وهذا هو روعة النص القصير جدا. ولذلك اختفت المفارقة من معظم النصوص ليعتمد البطران على الترميز الذي يذهب بنا إلى الكثير من الإيحاءات.
قد تبدو بعض النصوص مباشرة.. وحين التأمل في ما بين صدورها سندرك مفاتيح عدة تدلنا إلى أعماقها وما وضعه لنا الكاتب من سياقات ذهنية.
وهكذا نجد الكاتب وقد تجاوز الكثير من الكتاب في إلغاء تقسيم الأدب حسب جنس الإنسان.. وألغى مفهوم الرجل هو أكثر فهما وتجسيدا في الكتابة لهموم الرجل وأن المرأة هي بنت جنسها ولذلك تكتب أدباً نسوياً لا يجيده غيرها.. ليأتي البطران من خلال نصوصه يشير إلى أن الأدب هو أدب إنساني وأن المشاعر والأحاسيس والهموم إنسانية لا تميز ذكراً عن أنثى.. وأن الأديب الحق هو من يعبر عن الإنسان ذكراً أو أنثى .. ولنا في الكثير من نصوص ناهدات ديسمبر ما يدلل على قدرة الكاتب في ذلك المعنى.. ونذكر بعض عناوين المجموعة المعنية بذلك ابتداء من : الاهداء.. وعتبة بعنوان تنهيدة. مرورا بنصوص: سلمى.. جنازة.. طاقة خفية.. حنين.. تلون ألم.. جفاف قلم.. زهرة.. ظل.. ثوب قصير.. وصف.. نظرة.. دعاء مغلوب.. ضوء من بئر.. فيس بوك.. حِداد.. خط أحمر.. وجهها مرآة.. وسائط.. تذكر.. بحث.. تناقض.. ممر.. خيمة.. أمواج.. إبداع.. قسم.. رُميت من مرتفع.. اجتهاد.. حمى.. لون بلا طيف.. رعد بلا مطر.. قيادة حمراء.. حينما ابتسم.. ساق.. وحتى آخر نص سنجد أنها تعني الإنسان ذكرا وأنثى في الهموم العاطفية والاجتماعية والسياسية. والحقوق والحريات. وإن كانت موجهة للمرأة.
وما يلفت أكثر أن كاتبنا لم يكتف بإزالة تلك الحواجز بين الذكر والأنثى ليوجه خطاب نصوصه للمرأة .. بل تعمق أكثر وخص الكثير من نصوصه إلى عضو من أعضائها هو المتصل برمزية العطاء “الثدي” .. فالنهد لا يخص المرأة وإن كان جزءاً منها.. فهو صِلة الوصل بين الكائن الأول وهذه المليارات من البشر على سطح كوكبنا الأزرق.. ممجدا هذا الرمز الإنساني الذي أعطى للإنسان ذكراً وأنثى سر الحياة وديمومتها.
وفي تلك النصوص وغيرها لم نجد أن تلك النصوص ركزت على النهد وصلته بالرغبة فحسب.. بل ذهب بعضها بنا بعيدا إلى أثر هذا العضو على بني البشر في تكاثرهم كينبوع عطاء لوليد وأم .. وفي منح الحياة معنى أسمى وأجمل. أو كتأثيره على الرجل في نص معاهدة نهد وما تشير عليه سياقات النص.. إذ أنه يحمل معنى مباشراً ومعنى في سياق تميزي آخر من الممكن أن ينشأ في ذهن القارئ كنص موازٍ متخيل للقارئ مثل نص ممارسات ص47
وهكذا نجد أن جل نصوص هذه المجموعة لها أكثر من سياق.. فالكاتب ينجز لنا نصه دافعا القارئ لينجز نصه الذهني الموازي. وهذه دعوة ليشارك القارئ نصوص الكاتب ليس ككائن متلقٍ بل كقارئ منتج ومشارك في إثراء الفكرة التي يدعونا النص لمناقشتها.
البطران من المبدعين العرب القلائل الذين ينحتون مكانتهم من خلال هذا الفن الجديد “الأقصوصة” وهو بمجموعته الرابعة هذه يكرس نفسه كاتبا متخصصا .. ونعلم جميعاً أن حيز نص الاقصوصة لا يتجاوز بضع كلمات وقد يصل في أقصى الحدود إلى الخمسة أسطر وذلك يعتبر ثرثرة. ولهذا قلائل من يجددون في هذا الفن ومنهم كاتب هذه المجموعة. فعدد من الكتاب المتمكنين أصدروا مجموعة أقاصيص ثم هجروا كتاباتها .. وحين نسمع مبرراتهم نجد أنهم يتذرعون بعدم قدرتهم على الجديد.. في الوقت الذي لا يريدون تكرار أنفسهم حين يستمروا في كتابتها.
هي تحية لكاتب مبدع مثابر يحفر اسمه بين قلائل ممن يراهنون على قدرة الأقصوصة على البقاء والتطوير.
وننتظر روائعه وجديده، بل ونراهن على قدراته وتفرده.