المهدي: التصدق على الفقراء دليل على صحة إيمان العبد بربه، ويقينه بأن الرزق بيد الله تعالى وحده
استطلاع / أمين العبيدي
في البداية تحدث العلامة محمد المهدي بقوله:يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم أن لنا واجبات قدسية تجاه جميع الخلائق فيقول صلى الله علية وآله وسلم (في كل كبدٍ رطبةٍ صدقة)وفي هذا الوضع الذي يعيش فيه هذا الشعب الصامد الفقير كم من الناس يعانون من الفقر والجوع يموتون خلف أبواب بيوتهم لا يسألون الناس الحفاء يصبرون على الجوع وشدة البرد وهم لا يجدون ما يتغطون به فاين أصحاب القلوب الرحيمة وفي الحديث الذي يرويه صلى الله عليه وآله وسلم أن مرأة سقت كلبا يلهث من العطش فدخلت الجنة فكيف بمن ينقذ اسرة تموت من الجوع ويطعم انسان لا يجد كسرات الخبز كم له من الأجر والحسنات.
مضيفا بقوله: ونحن نجد بعض هؤلاء المحتاجين من الأطفال والنساء والشيوخ وسط العديد من النازحين واللاجئين الذين انقطعت بهم السبل فأصبحوا في عداد الأموات الأحياء المنتظرين للفرج من الله فكل يوم تشرق فيه الشمس ينظر بعضهم إلى بعض بنظرة المتفائل الذي أصبح يعيش في حلم أن يعود الوطن كما كان، مشيرا إلى أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى الصدقة على الفقراء والمحتاجين , وهي دليل على صحة إيمان العبد بربه , ويقينه بأن الرزق بيد الله تعالى وحده , قال تعالى : « قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ « فالمال ميال بالقلوب وحاجب لها عن رؤية ما ينتظر العبد من جزاء , وحاجب لها عن رؤية ما لله تعالى من نعم ومنن عليه تستوجب الشكر , عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ :قال رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم : «فِي ابن آدَمَ سِتُّونَ وثلاثمائة سُلاَمَى , أوْ عَظْمٌ , أوْ مِفْصَلٌ , عَلَى كُلِّ واحِدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَة , كُلُّ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ صَدَقَةٌ , وَعَوْنُ الرَّجُلِ أخَاهُ صَدَقَةٌ , وَالشَّرْبَةُ مِنَ الْماءِ يَسقِيهَا صَدَقَةٌ , وَإِمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»..
والمؤمن يدرك قيمة التكافل وأنه لا يعيش لنفسه فقط وأن عليه أن يعطي الفقراء والمحتاجين من مال الله الذي هو مستخلف عليه , قال تعالى : « آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ «, عن أبي سعيد الخدري قال:بينما نحن معِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلة وَسَلَّمَ في سفر؛ إذ جاء رجل على ناقة له،فجعل يَصْرِفُها يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وله وَسَلَّمَ :» من كان عنده فَضْل ظَهْرٍ ؛ فليَعدْ به على مَنْ لا ظهر له. ومن كان عنده فَضْلُ زادٍ؛ فَلْيَعدْ به على مَنْ لا زادَ له «، حتى ظننا أنه لا حَقَّ لأحد منَّا في الفَضْلِ
والعاقل هو من ينافس في حب الخير , وفي التصدق على المحتاجين , عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وآلة وسلم – قَالَ :«لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَينِ ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرآن فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاء اللَّيلِ وَآنَاء النَّهَارِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقهُ آناء اللَّيلِ وَآناء النَّهَار لذا حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته رجالاً ونساءً على التصدق .
«تطهير للنفس «
وعن تطهير النفس بالتصدق على الفقراء والمحتاجين يقول العلامة يعقوب الحسني: في الصدقة تطهير للنفس من الشح والبخل وتطهير للنفوس من الأحقاد والضغائن , قال تعالى : « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقال سبحانه : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) سورة التغابن.
يذكر رجل يسمى ابن جدعان وهذه القصة حدثت منذ أكثر من مائة سنة تقريبًا فهي واقعية, يقول: خرجت في فصل الربيع, وإذا بي أرى إبلي سمانًا يكاد أن يُفجَر الربيع الحليب من ثديها, كلما اقترب ابن الناقة من أمه دَرّت وانفجر الحليب منها من كثرة البركة والخير, فنظرت إلى ناقة من نياقي وابنها خلفها وتذكرت جارًا لي له بُنيَّات سبع, فقير الحال, فقلتُ والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري, والله يقول:» لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»
وأحب مالي إلي هذه الناقة, يقول: أخذت هذه الناقة وابنها وطرقت الباب على جاري وقلت خذها هدية مني لك.. يقول: فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول, فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها وينتظر وليدها يكبر ليبيعه وجاءه منها خيرٌ عظيم.
لما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه, تشققت الأرض وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء والكلأ, يقول شددنا الرحال نبحث عن الماء في الدحول, والدحول: هي حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية لها فتحات فوق الأرض يعرفها البدو, يقول: فدخلت إلى هذا الدحل لأُحضر الماء حتى نشرب ـ وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون ـ فتهت تحت الدحل ولم أعرف الخروج.
وانتظر أبناؤه يومًا ويومين وثلاثة حتى يئسوا قالوا: لعل ثعبانًا لدغه ومات, لعله تاه تحت الأرض وهلك, وكانوا والعياذ بالله ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال, فذهبوا إلى البيت وقسموا الميراث فقام أوسطهم وقال: أتذكرون ناقة أبي التي أعطاها لجاره, إن جارنا هذا لا يستحقها, فلنأخذ بعيرًا أجربًا فنعطيه الجار ونسحب منه الناقة وابنها, فذهبوا إلى المسكين وقرعوا عليه الدار وقالوا: اخرج الناقة, قال: إن أباكم أهداها لي, أتعشى وأتغدى من لبنها. فاللبن يُغني عن الطعام والشراب كما يُخبر النبي , فقالوا: أعد لنا الناقة خيرٌ لك, وخذ هذا الجمل مكانها وإلا سنسحبها الآن عنوة, ولم نعطك منها شيئًا.
قال: أشكوكم إلى أبيكم, قالوا: اشكِ إليه فإنه قد مات, قال: مات, كيف مات؟ ولما لا أدري؟ قالوا: دخل دِحلاً في الصحراء ولم يخرج, قال: اذهبوا بي إلى هذا الدحل ثم خذوا الناقة وافعلوا ما شئتم ولا أريد جملكم, فلما ذهبوا به وراء المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي ذهب وأحضر حبلاً وأشعل شعلةً ثم ربطه خارج الدحل فنزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى مكان يحبوا فيه وآخر يتدحرج, ويشم رائحة الرطوبة تقترب, وإذا به يسمع أنينًا, وأخذ يزحف ناحية الأنين في الظلام ويتلمس الأرض, ووقعت يده على طين ثم على الرجل فوضع يده فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع من الضياع, فقام وجره وربط عينيه ثم أخرجه معه خارج الدحل وأعطاه التمر وسقاه وحمله على ظهره وجاء به إلى داره, ودبت الحياة في الرجل من جديد, وأولاده لا يعلمون, قال: أخبرني بالله عليك أسبوعًا تحت الأرض وأنت لم تمت.
قال: سأحدثك حديثًا عجبًا, لما دخلت الدُحل وتشعبت بي الطرق فقلت آوي إلى الماء الذي وصلت إليه وأخذت أشرب منه, ولكن الجوع لا يرحم, فالماء لا يكفي.
يقول: وبعد ثلاثة أيام وقد أخذ الجوع مني كل مأخذ, وبينما أنا مستلقٍ على قفاي سلمت أمري إلى الله وإذا بي أحس بلبن يتدفق على لساني فاعتدلت فإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي فأرتوي ثم يذهب, فأخذ يأتيني في الظلام كل يوم ثلاث مرات, ولكن منذ يومين انقطع لا أدري ما سبب انقطاعه؟ يقول: فقلت له لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت! ظن أولادك أنك مت جاءوا إلي فسحبوا الناقة التي كان يسقيك الله منها, والمسلم في ظل صدقته, وكما قيل : صنائع المعروف تقي مصارع السوء ,فجمع أولاده وقال لهم: أخسئوا, لقد قسمت مالي نصفين, نصفه لي, ونصفه لجاري فيامن تبيت شبعان وجارك إلى جورك جائع اتق الله وعلم أن الدنيا فانية والآخرة خيرا وإبقى
«المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة «
أما الشيخ صابر النوفاني فيقول : يوم القيامة حينما تدنوا الشمس من رؤوس الخلائق ويلجمهم العرق إلجاما تأتي الصدقة وتظلل صاحبها فالجزاء من جنس العمل فكما أنه أظل الفقير من هجير الحياة بصدقته وأخرج له أحب الأشياء إلى نفسه فإن الله تعالى يكافئه بمثل فعله , قال الله -تعالى-: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم»
عَنْ أَبِي الْخَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآلة وسلم يَقُولُ: كلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ ، حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ : حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ : وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ ، إِلاَّ تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَلَوْ كَعْكَةً ، أَوْ بَصَلَةً ، أَوْ كَذَا أخرجه.
قال ابن الجوزي في: ( بستان الواعظين ) : « ذكر أن العبد إذا قدم إلى ميزانه وأخرجت سجلات سيئاته أعظم من جبال الدنيا فإذا وجدت له صدقة طيبة تصدق بها لم يرد بها إلا وجه الله تعالى ولم يطلب بها جزاء من مخلوق ولا رياء ولا سمعة ولا محمدة ولا شكراً فإن تلك الصدقة توضع في الميزان بأمر الملك الخلاق فترجح على جميع سيئاته ولو كانت سيئاته مثل وزن الجبال وأنشدوا:
يا جامع المال يرجو أن يدوم له * * * كل ما استطعت وقدم للموازين
ولا تكن كالذي قد قال إذ حضرت * * * وفاته ثلث مالي للمساكين