
محمد العريقي –
إذا كنا نسعى لتنمية حقيقية وخلق واقع مستقر في الريف والحضر فإن الضرورة تقتضي التركيز على توفير ابسط المقومات لذلك وبالدرجة الأولى المياه وعندما نقول المياه فإننا نقصد النهوض بكل المجالات التنموية والزراعية والصحية .
ولذلك لا نستكثر أي إنفاق لقطاع المياه إذا كان الغرض حصد وتوفير المزيد من المياه لصالح الحياة. فرغم ما أنفق من مبالغ لهذا لقطاع .. فإن اليمن لا تزال بحاجة لمليارات الدولارات لاستثمارها في هذا القطاع والأهم أن يكون الاستثمار بعيداٍ عن أخطبوط الفساد .
و إذا لم يكن هناك توجه للاستثمار في هذا القطاع في الحاضر والمستقبل فسيصبح الأمر أكثر تعقيداٍ, فالحاجة للمياه تتزايد في الارتفاع يوماٍ بعد يوم مع محدودية الموارد والمصادر, وإذا لم يحدث توازنا بين استهلاك المياه الجوفية والتغذية المائية للأحواض فسيأتي اليوم الذي يصبح فيه استخراج مياه الآبار باهظ الثمن وتصبح المياه شديدة الملوحة, وفي ظل الندرة فإن تحدياٍ أكبر سيواجهه قطاع الزراعة أمام زيادة الطلب على المياه ومع زيادة السكان وتوسع المدن لابد أن يتقلص استهلاك المياه تدريجياٍ وبصورة قهرية في الاستخدامات الزراعية لصالح الاستخدامات المنزلية والخدمية ولأغراض النشاط الصناعي خصوصا وأن إنتاجية المياه في الزراعة متدنية .
ويضع قانون المياه في اليمن مياه الشرب في المقام الأول لذا يصبح المزارع أكثر إنفاقاٍ للبحث عن مصادر جديدة للمياه . وبما أن المياه تشح باستمرار يصبح الأغنياء هم القادرون فقط على الحصول على المياه من مصادر أعلى كلفة وبالتالي الأقدر على الاستثمار في الزراعة وتصبح الحيازات الصغيرة والمشتتة لصغار المزارعين المعتادين على مصادر المياه التقليدية غير قادرة على المنافسة .
لقد أدى استنزاف المياه الجوفية بطريقة عشوائية للزراعة إلى نضوب هذه الثروة في عدد من الأحواض وكان المزارع هو المتضرر الأول وبالذات المزارع البسيط ففي منطقة العرة مثلاٍ ( في شمال صنعاء) وجد أن المزارع الوسطي اضطر لتعميق بئره بحوالي 50مترا خلال الاثني عشر عاما الماضية .. مما رفع تكلفة قيمته ونقص كمية الماء التي يمكن استخراجها بحوالي الثلثين وبارتفاع التكلفة ونقص المياه إلى الثلث فقط فإن هذا المزارع لم يعد قادرا على العيش من الزراعة.
وآثار زيادة التكلفة في الحصول على المياه لا تقتصر على الزراعة فقط وإنما أيضا على باقي الاستخدامات الأخرى ويتضح هذا جليا في المشاريع التي تقيمها الدولة في عدد من المناطق الريفية فالحكومة تدرك مدى الحاجة للتوسع في الخدمة كما بادرت الكثير من القرى لتبني مشروعات لجلب المياه الصالحة للشرب إلا أن الجهود المبذولة لم تتمكن حتى الآن من تحقيق الأهداف المنشودة والمتعلقة بشمولية الخدمة لكل مناطق اليمن هذا بالإضافة إلى المشكلات التي بدأت تعاني منها بعض المشروعات القائمة نتيجة نضوب المصادر وتضاؤل القدرة على التمويل الذاتي .
ومن بين الحلول التي برزت لحل مشكلة نقص المياه في المدن ظهور أسواق المياه والتي تمد مدن صنعاء وتعز مثلاٍ بالكثير من حاجتها عن طريق نقل المياه من الريف إلى المدينة ومعظم هذه الترتيبات تعتمد على الناقلات وهذا النظام مرتفع التكلفة للمستهلك ولما كان لا يخضع لأي أنظمة أو ضوابط فإنه عموما يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف للموارد المائية .
إن كافة البدائل التي يجري حاليا تقييمها لجلب المياه لمدينة صنعاء تظهر حقيقة التكلفة المرتفعة سواء عند البحث عن المياه الجوفية إلى مسافات أعمق مع العلم أن التعميق قد وصل حاليا إلى ما يقارب 2 كم أما الخيار الأخير والمرعب أمام المدينة فهو التحلية والنقل من الساحل فقد تصل تكلفة المتر المكعب إلى حوالي 6.6 دولار .
وبمرور الزمن أصبحت تكاليف إنشاء المشاريع المائية ترتفع بزيادة أسعار مدخلات تكوينها ولذلك تصبح المياه باهظة الثمن .
وفي الوقت الذي ازدادت فيه المدن والأراضي الزراعية اتساعا في أقاليم العالم الجافة مما أدى إلى تطلع المهندسين والمخططين إلى أماكن بعيدة جدا لغرض استجلاب المياه لتغذية الأراضي الزراعية والمدن واقتراح عدد من المشاريع لنقل المياه الضخمة لمواجهة الخطر الناتج عن الندرة المائية في تلك الأقاليم وعادة ما تكون هذه الأفكار على الورق .. ومع مرور الوقت تصبح تكاليفها كبيرة ويكون المزارع في وضع يصعب القيام مساهمته في مثل هذه المشاريع إضافة إلى تزايد احتياجات الدولة لمشاريع التنمية .
إن تكاليف التوسع لإنشاء المشاريع الهندسية الضخمة والخزانات السطحية وقنوات الري والتوزيع قد تضاعفت كثيرا في عدد من دول العالم ونتيجة للأسعار المرتفعة فإن الجهات الإقراضية الدولية قد خفضت جزئيا من القروض الممنوحة لتطوير هذه المشاريع ومع تضاؤل الاعتمادات والقروض المالية فإن كثيرا من مناطق العالم النامي لن تشهد توسعا لمشاريع مائية في المستقبل المنظور .
وفي وقتنا الحالي تعتبر معظم أنظمة الري المقامة في وضع سيئ للغاية فمع مضي الزمن تمتلئ قنوات التوزيع بالرمال وتتكسر وتقفل فتحات صرف المياه وبذلك تدمر البنية التحتية وتشير التقارير إلى أن هناك أكثر من 150 مليون هكتار أي ثلث المساحة المروية في العالم بحاجة إلى أي شكل من أشكال الصيانة لتعود إلى الوضع الطبيعي التي أنشئت من أجله.
فإيصال المياه إلى البيوت والمدارس والمستشفيات وغيرها من النشاطات المدنية المتعددة ليس بالأمر البسيط حيث يمثل استهلاك هذا القطاع عشر الاستهلاك العالمي من المياه ومع وجوب معالجة المياه الخاصة بالشرب وبدرجة يمكن تناولها دون تخوف من حدوث أضرار مع توافرها الدائم كل هذا جعل منها سلعه باهظة الثمن ومع الزيادة في اتساع المدن سواء كان ذلك عمرانيا أو سكانيا فقد أجهد القائمون على هذه المدن أنفسهم لتزويد هذه المدن بحاجتها من المياه ولو تطلب الأمر استجلابها من مناطق بعيدة .
وفي اليمن هناك الكثير من المدن المرشحة لنزيف المياه الجوفية مما يعني ضعف تقديم الخدمات المائية لهذه المراكز السكانية المكتظة وهذا يتطلب أمولا ونفقات طائلة إلى جهد خارق لتوفيرها .
وحتى أذا ما دخلنا في خيار تحلية مياه البحر فإن هذا الخيار يعتبر مكلفا فإزالة الملح من الماء سواء كان عن طريق التسخين وتكثيف البخار (الذي يعرف بعملية التقطير) أو عن طريق التنقية والترشيح من خلال الغشاء (الذي يعرف بعملية الانتشار الغشائي) تستهلك قدرا كبيرا من الطاقة واليوم تعد التحلية بالنسبة للمناطق الجبلية البعيدة عن البحر واحدا من أكثر الخيارات تكلفة خاصة إذا ما أضيف تكاليف هذه العملية إلى التكاليف المرتبطة بالنقل والإمدادات فتحويل مياه البحار والمحيطات إلى مياه للشرب يكلف ما بين أربعة إلى ثمانية أضعاف التكلفة المتوسطة للإمدادات من مياه المدن وما لا يقل عن عشرة إلى عشرين ضعفا لما يدفعه المزارعون سنويا في الوقت الحالي .
ومع ذلك تظل التحلية خيارا لابد منه وفي اليمن دخل هذا الموضوع حيز النقاش الجدي وطرح كبديل لمواجهة أزمة المياه في تعز ويتوقع أن تكون التحلية عاملا منقذا للحياة وباهظة الثمن لعدد كبير من المدن والقرى الساحلية تعويضا عن الموارد المائية المحدودة.
إن الاعتماد على محطات التحلية في توفير المياه سيترتب عليه تكاليف مادية باهظة نتيجة الاعتماد الكامل على المصادر الأجنبية لتقنيات التحلية في ظل غياب دور للقطاع الوطني في عمليات الصيانة والتطوير لتلك التقنيات .