التسامح بوابة العبور إلى المستقبل
التسامح نقيض التعصب وهذا الأخير -أي التعصب- يغتال كل قيمة كبرى في الحياة دينية كانت أو أخلاقية أو فكرية ويسمم العقول ويحولها إلى أداة طيعة في أيدي المتعصبين للمذهب أو الطائفة أو المنطقة. وعلاج هذا الداء يكمن في التسامح وفي المزيد من التسامح وقد وضع الإسلام بأفكاره وتطبيقاته العملية النموذج الأمثل لمعنى التسامح . وفي حمى الصراعات الراهنة تغيب عن المسلمين
– على اختلاف اتجاهاتهم- الأمثلة السامية التي وضع الإسلام قواعدها وقام وانتشر في الآفاق بفضلها ومن تلك النماذج –على سبيل المثال لا الحصر- موقف رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة وكلمته الخالدة التي خاطب بها كفار قريش بعد أن انتصر عليهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء” لقد أطلق سراحهم من الموت المحقق وفتح لهم بالتسامح باب الالتحاق بالإسلام وهم الذين أخرجوه وحاربوه وسفهوه ولم يتركوا وسيلة من وسائل الأذى والمكر إلا واتخذوها معه.
ونموذج آخر وهو لا يقل إدهاشا وسموا وفرادة ويتجلى في موقفه من “وحشي” عبد هند بنت عتبة وقاتل الحمزة بن عبدالمطلب عم الرسول الفارس المغوار. لقد قبöل الرسول إسلام “وحشي” بفيض من السماحة المثلى ولأن يدي هذا الوحشي ملطختان بدم الحمزة فقد اكتفى بأن يقول له لا تريني وجهك بعد الآن فإنه يذكرني بمصرع أحب أعمامي إلى قلبي. هذا هو الإسلام في عمقه وفي صورته الأولى. فأي إسلام يتحدث عنه هؤلاء الذين فاضت قلوبهم بالأحقاد وامتلأت نفوسهم بصديد الكراهية. وتلك النماذج الراقية تؤكد ألا مستقبل للعرب والمسلمين ولا مكان لهم في هذا العصر إن لم يتخذوا من التسامح منهجا ومن الصفح عن مخالفيهم مبدأ ولا مناص لنا جميعا من أن ننظر حولنا ونؤمن أننا لسنا وحدنا في هذا العالم وأن أمما كبرى وشعوبا ذات نفوذ سياسي واقتصادي ترقب كل صغيرة وكبيرة في حياتنا وربما شارك بعضها في إغراء بعضنا ببعض وفي تأجيج الخلافات في ما بيننا لأهداف لا تخفى.
التسامح وحده وليس غيره القادر على تفكيك الأحقاد ومعالجة الأضغان المزمنة في بعض النفوس والتسامح وحده القادر على التخفيف من حöدة هذه الوحشية التي بدأت تشوه حياة العرب والمسلمين في منتصف العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين وتقودهم إلى الانقراض. ولا خلاص من هذه الوضعية المخيفة إلا بالتسامح والتفاهم والطموح إلى المشاركة في بناء المجتمعات الإنسانية الباحثة عن الحرية والعدل والمساواة . ولا يمكن تجاهل أن جزءا مهما من عالم اليوم مشفق علينا وقلق مما نعانيه من حروب وانشقاقات وما يسيل على أرضنا من دماء وما يتجسد من كوارث وأن جزءا آخر من عالم اليوم لا يخفي سعادته بما يلحق بنا من خراب ودمار وسعادته تأتي مما تصور له أوهامه بأنه الوريث الذي سيؤول إليه حكم المنطقة وما فيها وما عليها من خيرات ومن مواقع استراتيجية.
إن العنف المستشري في بلادنا العربية والإسلامية سوف يستمر والاقتتال بين الأخوة الأعداء سيتواصل ولن يتوقف إزهاق الأرواح ولا خلاص مما نحن فيه إلا بفيض من التسامح والشعور بأهمية تجاوز الخلافات . ومنذ أيام قال لي أحد الأصدقاء أن الحديث عن التسامح قد صار لدى البعض من المحرمات ولم يعد كما كان فضيلة الفضائل التحريض على القتال والدعوة إلى الانتقام ونشر البغضاء والكراهية هي لغة اللحظة الراهنة . استغربت حديث الصديق ونظرت إلى ما يقول بوصفه من إسقاطات الظرف الراهن بما يتخلله من حالات الإحباط واليأس إذ لا يمكن أن تكون الدعوة إلى التسامح ونسيان الخلافات والخروج من دوامة الكراهية منافية لما تتطلبه وتستدعيه كل مرحلة في حياة البشر الذين جبلوا على طبائع تقود أحيانا إلى الاعوجاج والخروج عن جادة الصواب وهي بحاجة دائما إلى التصحيح والوعي بمخاطرها الآنية والمستقبلية.
تأملات شعرية:
طوبى لقلوب سكنتها الرحمة
وأمتلأت حبا لله
وحبا للناسö
خلتú من نار الحقد
ومن شرر البغضاء.
طوبى لنفوس مؤمنة
لم تقتل
لم تسرق.
لم تتمرغ في أوحال
الأهواء.