هيمنة آل سعود على العرب: ليست بالمال وحده

لا ينفع الإنكار. لقد نجح آل سعود للمرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر في الاستحواذ على قلوب وعقول قطاعات كبيرة في الري العام العربي. إن جهاز الدعاية التابع لآل سعود كان عرضة للسخرية والتجاهل في الزمن الناصري. لم يكن جهاز دعاية آل سعود إلا الدين يرميه بوجه كل من ينتقد نظام الحكم المتخلف هناك. وكان منبع التفكير الإسلامي المعاصر يلجأ إلى تكفير كل النظم الجمهورية العلمانية (نسبيا). كادت مملكة آل سعود تنهار أمام المد القومي الناصري آنذاك وكان طيارون وحتى أمراء من آل سعود ينشقون عن النظام ويلجأون إلى كنف النظام الناصري. لكن النظام السعودي ليس مثل النظام الملكي اليمني (والذي أنفق عليه الغرب والعدو الإسرائيلي الغالي والنفيس للحفاظ عليه) ولا حتى هو مثل نظام أمين الجميل في الثمانينيات الذي مات «من أجله» جنود المارينز.
النظام السعودي يشكل «مصلحة حيوية» للولايات المتحدة وهي وضعت خططا عسكرية تفصيلية منذ عقود للدفاع عن النظام بوجه أي تحد داخلي خصوصا إذا تعرضت منابع النفط لتهديد. لكن عبد الناصر وزمنه القومي دخل التاريخ القديم والنظم القيمية ليست ثابتة عند الشعوب بل هي متغيرة بحكم تغير تحديد المصالح (على طريقة نظرية «الخيار العقلاني») وبحكم تغير الأزمان والسياسات المسيطرة التي تقولب (أو تحاول أن تقولب) أذهان الناس وأهواءهم.
أعجب لمن يقول في لبنان بعد الغزوة الحريرية بعد عام 2005م عندما انحاز قطاع كبير من سنة لبنان نحو عقيدة حزب الكتائب اللبنانية – وإن بمسميات مختلفة – إن طرابلس أو صيدا أو بيروت هي مدن ناصرية قومية عربية. هذا يصف مرحلة تاريخية ولا يصف بالضرورة حالة ثابتة غير متغيرة. كانت طرابلس مدينة قومية عربية ناصرية في الماضي كما كانت صيدا لكن المدينتيúن تغيرتا كثيرا وأصبح أحمد الأسير وأبو محمد الجولاني أقرب إليها من عبد الناصر وما تبقى من إرثه (حتى إرثه لم يعد قريبا منه فتجد عبدالرحيم مراد الذي ترأس واحدا من التنظيمات الناصرية على مدى عقود يناصر آل سعود في حربهم الرجعية في اليمن وهي حرب مكملة لحرب آل سعود في اليمن في الستينيات ضد الخيار الناصري الجمهوري العلماني). حتى الدين إن بالفهم أو بدرجة الطاعة أو الممارسة متغير بتغير الأزمان. فتجد أن لبنان (عند السنة أو عند الشيعة) كان أكثر علمانية (مجتمعيا) في الخمسينيات والستينيات وكانت المجاهرة بمخالفة أحكام الدين – مثل تقديم الخمرة في الأعراس – شائعة. ليس هذا في الحكم أكثر ما هو اعتراف بعدم ديمومة النظم القيمية أو الثقافة السياسية السائدة.
وليس هناك من مثال على تغير الثقافة السياسية السائدة أكثر من المثال المصري. فقد عمل جمال عبد الناصر جاهدا من أجل أن يغير بصورة جذرية في الثقافة والهوية السياسية المصرية نحو وجهة قومية عربية. أصبحت القاهرة لا دمشق هي قلب العروبة النابض فيما مثلت دمشق (السياسية) – عاصمة البعثيين أو جزءا منه – الانشقاق والانفصال والتجزئة. فالثقافة على ما يقول جون ستوري هي «شبكات متحركة أو متغيرة من المغزى أو الترميز». أما السادات فقد برع في خطب طويلة مملة وفي جهاز دعاية عملاق استعان بلا ريب بخبرات غربية في عمل دؤوب على قلب الثقافة والهوية السياسية رأسا على عقب وحول الدين إلى أداة رجعية تتواءم مع الفهم الخليجي والأمريكي لدور الدين (والدين هو جنوح فقط للسلم مع العدو الإسرائيلي عند السادات). شدد السادات في خداع لم تظهر مفاعيله إلا بعد عقود على المصلحة الأنانية المصرية وصورها على أنها معادية للمصلحة العربية. والرأسمالية في خداعها في منطقتنا (على النسق الحريري أو الساداتي أو السيسي) تعمل من خلال الوعود بربيع مقبل مزهر أو بسنة مقبلة واعدة الخ.
لا تحكم الدولة الرأسمالية بالقمع وحده ولا يمكن الركون إلى نظرية فرض الطاعة العمياء أو الرضوخ والاستكانة الشرقية أو الإسلامية للحاكم مهما كان مستبدا وفق فرضيات الاستشراق. لحظ ماركس في ذلك المقطع المعروف من «مقدمة للمساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» طبيعة البنية التحتية الاقتصادية و«المجتمع السياسي» (كالبنية الفوقية) في النظام الرأسمالي. قال: (ما يعنينا هنا هو القسم المتعلق بالنية الفوقية): «إن علاقات الإنتاج تلك تمثل البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع – الركن الحقيقي والتي عليها تنهض البنية الفوقية القانونية والسياسية والتي بدورها تتوازى أشكال محددة من الوعي الاجتماعي». وكان هذا الفهم سائدا بين الماركسيين في زمن الإيمان بالحتمية التاريخية للتحول الثوري. لكن الدولة الرأسمالية تعززت ولم تفلح الثورة الاشتراكية في الدول الصناعية الأوروبية. وكان مفهوم «الهيم

قد يعجبك ايضا