موسم حصاد الشعارات
محمد محمد إبراهيم
لم تزل المسافات طويلة جدا أمام القوى السياسية اليمنية ولم يزل الامتحان معقد على طريق إيجاد الذات السياسية بما تحمله هذه الكلمة من دلالات ومعطيات المشروع السياسي الواقعي بل وأصعب مما يتصوره البعض ممن لا يجيدون سوى إتقان صناعة الشعارات وكتابتها وحملها وترديدها على الجماهير والجموع المطحونة بواقع معيشي مر..
لقد مر الربيع العربي الذي كان موسما خصبا لبذار الشعارات السياسية والمصطلحات المطاطية التي تعكس الوجدان المتدفق بالعاطفة السياسية الماكرة تجاه الشعوب العربية -ومنها اليمن- التي عانت وتعاني منذ نصف قرن من ارتعاشات المشهد السياسي والمجتمعي وخرائب الصراعات على السلطة وهي الصراعات التي ما كان لها أن تدار إلا بأثواب الفكر والعقيدة والايدلوجيا والنفوذ القبلي والمادي وما كان لها أن تحرك الجموع والجماهير إلا من منطلق الانتصار لآلامهم وفقرهم من أولئك الخصوم السياسيين الذي سلبوا الشعوب رغد عيشهم وهنا يجب عليها التضحية والموت في سبيل استعادة ذلك لتجد تلك الشعوب نفسها أمام خراب ودمار لا تمتلك أدواته مطلقا سوى كونها كانت حشو فتائله المشتعلة لكن عليها شاءت أم أبت أن تدفع ثمنا أغلى من أمنها واستقرارها..
لقد جاء الخريف الذي كانت تنتظر الشعوب أنه سيكون غزيرا بثمار التضحيات المتوقعة أن تأتي كسنابل أمن واستقرار وفرص وفيرة لتقدم النهوض وتراجع لغلاء المعيشة كنتيجة لتلك الشعارات التي وعدت بعد رحيل الأنظمة لكنه كان خريفا سيئا وحصادا خائبا لشعارات -تلك القوى السياسية في الدول العربية المطحونة- إذ أتت ثمار الربيع فقط بالأسوأ لتلك الشعوب لتشهد سوريا والعراق وليبيا واليمن تيارات متطرفة تقتل كل ما له صلة بالإنسانية والحياة..
صحيح أن اليمن وحدها رسمت – بين هذا الثلاثي المطحون – ملامح تجربة نظر لها العالم بإعجاب وهي التوافق على وثيقة ضمان حياة اجتماعية وسياسية آمنة وهي وثيقة الحوار الوطني الشامل لكن الأمر في هذا المقام حتم على الشعب أن يدفع ثمنا باهظا للخراب والدمار الذي أنتجه الربيع العربي منذ 2011م والذي طال الطاقة والنفط والمعسكرات والمقدرات العامة والخاصة ويتمنى العقلاء في هذه اللحظات العصيبة التي يمر بها تاريخ اليمن السياسي أن يقف الحد عند هذا الثمن..
إن ما يجري اليوم في اليمن من ملامح عودة جديدة لربيع أكثر خطرا على مسار التسوية السياسية وأكثر خصوبة بالشعارات بإسقاط جرعة لا مفر منها لكل من سيصل إلى السلطة في معادلة اقتصادية صعبة يعيشها الشعب ويعيشها الاقتصاد الوطني أيضا خصوصا وحكومة الوفاق الوطني بقواها السياسية المختلفة مررت الإصلاحات السعرية كمحطة انطلاق أولى في مسار الاصلاحات دون الإلمام الشامل بما هو أهم لتفتح الباب على متوالية جديدة من سلسلة أعذار الصراع السياسي المشروعة لكل القوى السياسية اليمنية..
في هذه اللحظة الفارقة والصعبة لا نستبعد أن تتراجع بعض القوى عن موافقتها محاولة للهروب من الواقع إلى شعاراتها التي لاكتها طوال الأزمة باسم الشعب ليبدو الشأن اليمني اليوم ملبدا بغيوم استثنائية وخطيرة لم يكن يتوقعها شركاء النظام السابق القافزين إلى المستقبل عبر وجع الشباب ومطالبهم المشروعة في دوامة مسيرات الربيع اليمني وما شاهدناه بعدها من انحدار ومبالغات في الشعارات العصماء والتي لا تمس للواقع بصلة..
هنا يجب القول أن القوى السياسية المؤججة للربيع اليمني أثمرت التغيير الإيجابي في العمل السياسي اليمني لكنها لم تنج من “حفرة ” السياسة (تماس الخطر بين الشعارات والواقع) وكانت قد احتفظت لنفسها بعد شعارات ومبادئ ربيع 2011م بالحق الفكري لإبداع هذه الشعارات لتجد نفسها أمام سراب إنتاجها الخطابي المتشدد والمزايد على منطق الحال والواقع والدليل أن القوى السياسية -التي فرضها الربيع العربي على مجريات العمل الحكومي (حكومة الوفاق الوطني)- وجدت نفسها أمام بنية تحتية ضعيفة وموارد شحيحة ودولة قائمة على التوازنات الدقيقة التي فرضت ثقافة تعايش القوة أي التعايش مع قوى أكثر إعاقة لمسار العمل المؤسسي وسيادة القانون ودون ذلك التعايش غير المحكوم بتشريع نافذ يحمي الجميع كانت اليمن معرضة لكوارث التصفيات والاغتيالات والانقلابات..
سقطت تلك الشعارات أمام الانهيار الوشيك للاقتصاد الوطني لتصبح الإصلاحات السعرية الآن بالنسبة للقوى السياسية غير الضالعة في الحكومة (أنصار الله) حبل غسيل سياسي أكثر حداثة لنشر خيبة أمل تلك الشعارات الجوفاء وتقود زمام الحديث عن معاناة الفقراء في عمل سياسي منظم ومسيرات تجوب ال