لا يسار ولا يمين في الوطن العربي
د/عبدالعزيز المقالح
د/عبدالعزيز المقالح –
هناك ما يشبه الإجماع لدى عدد كبير من مفكري الجيل الجديد على ضرورة تغيير المواقف الجامدة التي تتعارض مع التطورات المتلاحقة وتذهب بعض دراساتهم الفكرية وهي تتحدث عن حداثة ما بعد الحداثة وإنسان ما بعد الإنسان إلا أن الصراع الفكري الذي كان دائرا في الوطن العربي بين اليسار السياسي واليمين السياسي قد اختفى ولم يعد باقيا منه على السطح سوى غبار المعارك التي دارت بين الطرفين عبر نصف قرن تكبد اليسار واليمين خلاله من المرارات والخيبات ما لا يتسع مقال كهذا لتدوين عناوينه. وكانت خسائر اليسار العربي أفدح وأكثر بما لا يقاس من خسائر اليمين العربي فقد كانت الظروف دائما في صالح اليمين مع استثناءات نادرة.
ومما ورد في واحدة من تلك الدراسات أن رياح العولمة بعد أن هبت عاصفتها القادمة من الغرب قد اجتاحت في طريقها كل ما كان يدور من أفكار وأطروحات سياسية واقتصادية وأنه صار من العبث الذي لا طائل تحته إحياء المواقف القديمة أو استمرارها بعد أن صار الخصمان المختلفان (اليسار واليمين) أمام مخاطر من النوع الجديد والوزن الثقيل والتي من شأنها أن توحد الخصمين وتنهي أسس الخلافات القديمة وتطوي أثارها السلبية لتفتح صفحة جديدة للعمل المشترك والاتجاه صوب المستقبل.
لقد تغير العالم كثيرا عما كان عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين وتعرضت كل شعوب العالم تقريبا لهزات ومتغيرات لم تكن في حسبان الدراسات التقليدية والرؤى المتعارف عليها ونهضت في البلدان المحكومة بالأنظمة الشمولية أو حكم الفرد انتفاضات غير مسبوقة تتقدمها فئات من المقهورين والمهمشين وذوي الدخول المحدودة وغيرهم من الباحثين عن التغيير الشامل ولم يكن –كما تقول تلك الدراسة- يحرك هذه القوى حزب أو أحزاب من اليسار أو اليمين بل كانت مفاجأة لها كما فاجأت الحاكمين تماما وإن حاولت الأحزاب بمختلف انتماءاتها وبعد أن امتلأت الميادين بالبشر أن تلحق بها وأحيانا تتعمد احتواءها إلا أن تلك الانتفاضات أو الثورات كانت في حقيقة الأمر شيئا جديدا مختلفا وكان أجمل ما صنعته أنها استطاعت –ولو لفترة قصيرة- أن توحد وتؤلف بين اليسار واليمين وأثبتت أن في الإمكان تعاون الطرفين في سبيل إنجاز مشروع التغيير الذي انتظرته الأمة طويلا وما تزال تنتظر. ويكفي دليلا على نجاح التحالف في الميدان أن أنصار الأطراف التي كانت متصارعة ومختلفة الرؤى قد حملوا صورا لقادة وزعماء كانوا موضع خلاف ومنهم “تشي جيفارا” الذي لقي حتفه وهو يصارع قوى الأخطبوط الاستعماري بشكليه القديم والجديد .
ومن المهم الإشارة في هذا الصدد إلى أن التفاؤل بل الأمل بلغ ذروته في نفوس غالبية المواطنين في أن يستمر التضامن بين ما كان يسمى يسارا وما كان يسمى يمينا وأن يتأكد الموقف المشترك بينهما من خلال الأفعال لا الأقوال إلى أن يتم التغيير وتتمكن الأمة من استعادة كرامتها وإنجاز مشروعها الاجتماعي والاقتصادي القائم على العدل والمساواة وهو ما هدف إليه الإسلام وما نادت به الثورات الوطنية. وفي مناخ ذلك التفاؤل أصبح الاصطفاف الوطني مطلبا شعبيا وشعورا نابعا من حاجة المجتمعات العربية إلى البناء والتطور وهما عاملان أساسيان في ترقية الشعوب ونهوضها وذلك بعض ما يتم في الدول التي تسمى بالمتقدمة حيث لا تمنع الخلافات في الآراء من التوافق والإجماع على كل ما من شأنه أن يحفظ سيادة الأوطان وارتقائها اجتماعيا واقتصاديا.
والسؤال المهم والضروري في هذا السياق هو: أين نحن من هذا الذي كان قد تبلور وأنضجته الساحات وعمدته دماء الشهداء الشبان¿ كيف لم يتواصل التقارب والتآلف وتحديد رؤية مشتركة للمستقبل لا لمرحلة محدودة وتعود الأمور إلى ما كانت عليه بدلا من الإصرار المشترك على إنجاز المشروع الأساس للنهوض وبناء الدولة وانخراط الجميع في هذه المهمة الأساسية سواء كانوا من اليسار أو من اليمين أو الوسط مع الاعتراف الخالص المخلص بأن بناء الشعوب لا يتم عن طريق الشعارات واللافتات وأن التغيير المطلوب والبدء في البناء لا يقوم إلا على سواعد كل أبناء الوطن وفي طليعتهم تلك القوى التي كانت قد انضمت في أحزاب وتجمعات ولن نتمكن من الوصول إلى تحقيق هذا الهدف الكبير إلا إذا تناست الماضي وتجاوزته وتعاونت على مسح أشرطة الخلافات وتعهدت بعدم نبش قبور الماضي بكل ما كان قد دار فيه من اشتباكات صنعتها رغبة لا عقلانية تقوم على الاستئثار والانفراد والإقصاء.
مع سفينة القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني:
أهداني الأخ السفير عبدالرزاق محمد إسماعيل العمراني مجموعة من الكتب التي ألفها أو شارك في تأليفها أو جمعها وفي مقدمتها كتاب “السفينة” لوالده القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني أطال الله عمره. و”السفينة” تسمية