في ذكراك يا أبا الهاءات

كمال محمود علي اليماني


في الثاني من مارس من العام 2007م كان رحيل شاعرنا الكبير والجميل محمد حسين هيثم هي ذكرى رحيله السابعة إذا ويطيب لي في هذه المناسبة أن أعيد ذكراه صإلى ذاكراتكم التي أثقلتها أمور المعيشة والسياسة ولم تترك لجمال روح شاعرنا الهيثم أن تحضر لتزدهي بها أوقاتنا المتعطشة إلى بعض من اخضرار يبعد عنها شبح يباس عاث في أرجائها وتربع على عرش خرائبها .
ولسوف أعرض على ذائقاتكم قصيدة هي من القصائد الحور في جنات ديوانه (( الحصان )) وهي كما أوضح تاريخ كتابتها من القصائد التي كتبها في بداية مشواره الشعري حين كانت قدماه (رحمه الله) قد جاوزت عتبة باب قصر الشعر مجازا ذلكم القصر الذي ألبسه تاج التميز وجلله بالإبداع حتى أضحى الهيثم واحدا من أهم قامات الشعر اليمني بل والعربي .
القصيدة بعنوان ( القروي ) وهي من قصائد عام 1979م وإذا كنا نعلم أن الهيثم من مواليد عام 1958م فإننا بحسبة بسيطة نجد أنه قد كتب القصيدة هذه وهو في سن الواحدة والعشرين من عمره هذا على الصعيد الشخصي أما على صعيد الوطن فقد كتبها أيام الحكم الشمولي في الشطر الجنوبي من اليمن فيما كانت تسمى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ) ولكم أن تعيشوا معي –أعزائي القراء – الأجواء المحيطة بكتابتها .
وإذا كان الشاعر العربي الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي قد أورد لنا في ديوانه ( مدينة بلا قلب ) والذي ضم بين جنباته عددا من قصائد كتبها حجازي في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم علاقة الشاعر القروي بالمدينة حيث قال في قصيدة ( كان لي قلب ):
“وأمضي .. في فراغ بارد مهجور
غريب في بلاد تأكل الغرباء
وفي قصيدة (الطريق إلى السيدة ) يقول:
والناس يمضون سراعا
لايحفلون
أشباحهم تمضي تباعا
لاينظرون
حتى إذا مر الترام
بين الزحام
لايفزعون
لكنني أخشى الترام
كل غريب هاهنا يخشى الترام

فإن الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي يصور لنا في ديوانه ذاك حالة القروي القادم إلى المدينة وعلاقته بها وبالناس من حوله وإحساسه العارم والغامر بالغربة إذ خلف قريته وراءه وجاء إلى مدينة أضحى فيها غريبا لاعلاقة له بطرقها ولا بمبانيها وقصورها ومآذنها بل ولا علاقة أو وشيجة تربطه بأهلها .
هكذا رسم الحجازي صورة القروي القادم إلى المدينة واستقبالها له غير أن شاعرنا الهيثم نظر إلى القروي وعلاقته بالمدينة من زاوية أخرى وصور لنا غربته من منظور مختلف فهو هنا لايصطدم بالمدينة المباني والبيوت والمآذن والناس بل يصطدم بما يقيد حريته ويسلب فضاءاته التي عاش ردحا من الزمن يسبح في امتداداتها.
لقد قدم ذلكم القروي إلى المدينة لاحبا فيها ولاعشقا لها ربما قادته الحاجة وطلب الرزق وهو مايشي به وصف القروي في ثنايا القصيدة وما أن يدلف المدينة حتى يأتيه التحذير ممن سبقوه أو ممن رأوا بساطته وربما سذاجته يقول الشاعر :
لم يكن عاشقا
إذ رايناه قلنا
-(( أيها المستهام
ثم نار وعصفورة لاتنام
ثم ريح تحث الخطى في الضلوع
ووجد يعرش فوق غصون الظلام
وأشياء اخرى

قلت أنه كان بسيطا وربما كان ساذجا أيضا فقد وصفه الشاعر بقوله :فياأيها القروي البسيط
ثم راح يبسط لنا بعضا من أوصافه :
أعرفه
لايعرف أن يقرأ جورنالا
لايقدر أن يتهجى اسمه
من عادته أن يتذكر أمه
((احذر ..
ياقرة عيني
كل نساء ((البندر))
احذر أن تزني أو تسكر))

ولقد ظل ذلكم القروي على قرويته فهو يستقرىء قلبه قبل النوم وبعد النوم وهو يحمل قريته في عينيه ويمضي كالقمر الشاحب منتشرا بين الوهم وبين الحلم .. كما راحت تصورة ريشة شاعرنا الجميل محمد هيثم.
وفي نسق قصصي شعري أبدع الهيثم في تصويره قدم لنا سيناريو عرض لنا فيه مشهدا يصور ذلكم القروي وقد جلس في ركن مقهى من مقاهي المدينة ليشرب شايا ثم:
يتكىء بمرفقه في المائدة المنهارة
يندلق الشاي
تنهار المائدة على المائدة الأخرى
يندلق الشاي
ويعم هياج في المقهى
يندلق الحزن اليومي
ويعم هياج في الشارع
يندلق الحزن اليومي
وتدب النار بجلد الطرقات
……..
ذلكم القروي المسكين في فعل ما لم يقصده وجد ذاته في موضع شبهة وتهمة فما كان إلا أن :
تنهمر الصفعات عليه
تترك قريته عينيه
تتراكض أعمدة النور إليه
تتباعد
تتقارب تتباعد تتقارب تتباعد..تتباعد
..تتبا..عد..
وتغيم الرؤية
يندلق العالم
يسلمه النادل للدركي .. وفي هذه العبارة

قد يعجبك ايضا