الحوار أم الدمار !¿
عبدالحليم سيف
كان ذلك مستحيلا.. قبيلتان تحاربتا زمنا طويلا حتى أوشك الاستئصال الدموي أن يبيدهما معا.. لكن وفي لحظة حرجة كان للعقل الخامل أن يتفتق عن ابتكار حلول عبقريةتجنب البشر الفناء والهزيمة في آن واحد.
ومن تفاصيل الحكاية أن إحـدى القبائل التقطت المبادرة فاختارت وفدا مصغرا من بين أبنائها أكثرهم حنكة ودهاء وأرسلتهم للتفاوض مع القبيلة المعادية..تجرد أعضاء الوفد من أسلحتهم.. ارتدوا الملابس الزاهية الألوان ورسموا على وجوههم ابتسامات ودودة مسالمة ومحبة للحياة.. فكان أن أحجم أفراد القبيلة الأخرى عن الانقضاض عليهم وتهشيم رؤوسهم بهراوتهم الحجرية.. لكونهم أدركوا أن القادمين إليهم يختلفون عن غيرهم من المحاربين ليس بالزي والملامح فقط وإنما بالنوايا الحسنة والمساعي الصادقة وبذلك نجحت أول مهمة سلام في تاريخ الإنسانية.
تلكم خلاصة مكثفة لقصة قرأتها في كتاب “إدارة الأزمات في عالم متغير ” للدكتور عباس رشدي العماري وهي واحدة من عشرات الأساطير المعبرة عن ” جمع أطراف الأزمة” للخروج بحل توافقي يضع نهاية لطريق الآلام الناجمة عن الصراعات السياسية والحروب الأهلية والطائفية.. ومغزى الراوية أنها تقدم درسا بليغا لمن لا يفهم من “همجستان ” كيف عرفت الجماعات الإنسانية مبكرا أن توجه الأزمات السياسية “بحوار جاد قائم على قاعدة تغليب “قوة المنطق على منطق القوة “.. أو ما يعرف بـ “مبادرة التنازلات المتبادلة ” كاقتسام كسرة خبز مع الغير أفضل من التناحر من أجل الاستئثار بها كليا.كما يقول تشارلس رووتر في كتابه ” فن الدبلوماسية”.ونفس المعنى نجده في تعبير الفيلسوف الإغريقي للوعي بالأخطار الحقيقية للأزمة ” بأنه المحك الدقيق لمعادن الرجال “.
وأظن أن هذه الحقيقة هي مرادنا جميعا.. لاسيما وأن تاريخنا العربي يصاحبنا في كل مسارات نكساتنا وحروبنا الداخلية والإقليمية..العبثية والخاسرة (وما أقلها !! ) ما يعني أن ذاك التاريخ يذكرنا..ويعطف على أحوالنا.. لا بل يشفق ويلعن في غضب على النخب غير المنتخبة التي ألهاها تناحرها على السلطة واقتسام الغنائم والمكاسب بغير حق وقد تنكرت للقوانين والشرائع السماوية والعرفية والقانون الدولي الإنساني فكان أن ابتعدت عن منهج الإسلام القائم على التقوى والمحبة والتسامح والتواضع والتعايش والتصالح والسلام.
وإذا غلب فرقاء الأزمة لغة الحوار لوجدناهم في وحدة واتفاق على القواسم المشتركةوفي هذا السياق يؤكد أساتذة العلوم السياسية على أهمية التواصل المباشر بين أطراف المعادلة السياسية والقوى اللاعبة أو المتورطة بصراع المصالح الخاصة فهو الأسلوب الحضاري الذي يجنب الجميع الذبح والفناء والانقسام والفرقة والخيانة والضعف والهوان والضياع والتبعية لمتربص غربي أو شرقي -لا فرق- تجده يأخذ ولا يعطي.. وان تدخل لا يفكر إلا بنفسه وبمصالحه لا أكثر ولا أقل !!
ربما.. إننا نتفق ونختلف كثيرا على اختيار أسلوب حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا ما يتصل بالنظام السياسي الأمثل وكيفية صناعة الدستور والاتفاق على آلية واضحة ودقيقة لفض الاشتباك بين الشرعية والمشروعية والشريعة.. وأي دولة نريد.. مدنية أم قبليه.. دينية أو علمانية وفي هذا السبيل علينا أن نجعل التباين والاختلاف في دائرة الحوار.. والحوار وحده.. حتى وإن طال لسنوات فهو أجدى وانفع من قيام طرف ما بفرض مشروعه بقوة السلاح أو اللجوء إلى ممارسة أساليب الترويع والترهيب والتخويف لفرض واقع مناطقي أو قبلي غير وطني.. يفرق ولا يوحد.. يدمر ولا يعمر.
إن عقلية متحجرة وعصبية مقيتة كهذه هي من قادت أمة العرب من جاهليتهم بالقرن الحادي والعشرين إلى جاهلية ما قبل القرون الوسطى وكيف لا يكون ذلك مع الأسف وأخبارنا أصبحت كما أمست العنوان اليومي على شاشات فضائيات الدنيا الناطقة بالعربية وبغيرها من لغات العالم بتفاصيل المشاهد الفاجعة على وجوه أطفال ونساء.. شيوخا وشبابا ورجالا دمهم يسيل كشلال في كل شارع وميدان وساحة ومدينة وقرية.. بينهم قتلى وجرحى.. مشردين ولاجئين يعدون بالملايين من ضحايا جندلتهم دانات وقذائف أبناء الوطن الواحد ولم يسقطوا صرعى بصواريخ ورصاص “العدو المشترك” كل جريمة هؤلاء أنهم خرجوا إلى ساحات مدنهم يطالبون بحقوقهم الإنسانية والمدنية والعيش بحرية و كرامة وعدالة ومواطنة متساوية إلى وأن يختار بإرادته المستقلة من يحكم.. وكيف يحكم إلى” حق التنفس”.
أما وقد وقع المحظور وأصبح الإنسان يذبح مثل الخرفان في ديار العرب من محيطهم الى خليجهم فلا غرو أن