اليقين المطلق وأزمة الكتابة

–
فكرة اليقين المطلق التي اتسم بها القرآن يبدو أنها صبغت عقولنا نحن العرب فأسقطناها على كل قول نقوله أو نكتبه أو نقرأه أصبحنا نحاكم كل ذلك بمعيار الصدق والكمال وأصبحنا نرى أن الحقيقة ينبغي أن تكون مكتملة لا مجال فيها للشك هذا انعكس حتى على تفكيرنا وكتابتنا فنحن لا نكتب إلا ما رأيناه مكتملا وواضحا وغير قابل للنقض مستقبلا لذا تجدنا نحجم كثيرا عن الكتابة رغم أن تفكيرنا يوصلنا أحيانا إلى حقائق نسبية ولكننا نؤجل كتابتها إلى أجل غير مسمى ظنا منا أنها غير مكتملة أو أننا علينا تقديمها بشكل لا يعرöضها مستقبلا للنقض والتشكيك وهذا ما يفسر قلة كتاباتaنا وتخوفنا من نشر ما كتبنا وإذا كتبنا شيئا سخرنا كل كتاباتنا في المستقبل للدفاع عنه وشرحه والبرهنة على صحته بدلا من الاعتراف بحقيقته النسبية والعمل على تطويرها وإضافة ما استجد من وجوه الحقيقة التي غابت عنه وأقول غابت عنه أي إما أنها كانت غير موجودة أصلا أو أنها لم تكن موجودة في متناول الكاتب ووعيه. وهذا ينطبق أيضا على التراث بشكل عام في طريقة تلقيه والنظر إليه من زاوية الحقيقة الكاملة إذ لا يعدو جله أن يكون متونا قليلة وشروحا وتعليقات كثيرة عليها تبين صحتها وجوانب الكمال فيها وأخرى تعيب عليها عدم اكتمالها.
أذكر أن محاضرات كثيرة ههممت بكتابتها ولكن أحجمت –رغم توافر مادتها الفكرية التي أؤمن بأنها مهمة وجديدة- بسبب عدم توافر المراجع والإطار النظري الذي يجعلها تبدو حقيقة غير قابلة للنقض وأذكر أن بعض زملائي مثلا يناقشني عن أشياء ويظهر لي أفكارا تبدو أصيلة وحين أسأله لماذا لا تكتبها فيقول الموضوع يحتاج إلى وقت حتى تتضح الرؤية. ترى لماذا هو مستعد للنقاش أو لمهامسة طلابه في قاعة الدرس وغير مستعد لأن يكتب ويجاهر للناس جميعا¿
ألأن المهامسة لا تلزمه بالحقيقة الكاملة¿ أم لأن الكتابة ستبقى نصا خالدا مسافرا عبر الزمن ينبغي أن يصمد في وجه المتغيرات ولا يتناقض معها ويبقى في زواج أبدي مع الحقيقة وهذا يحتاج جهدا أكثر من الكاتب حتى لا يكفر به أحد من أتباعه مستقبلا حين يكتشف أن إله هذا النص لم يكن عارفا بكل شيء فهو أحق ألا يتبع¿
هل لتقديم تصورنا نحو قضية ما تحتاج منا عرض تاريخها إلى الوقت الذي نعيش فيه¿ هل لكي أتعلم مهارة التحدث أحتاج إلى عرض لتاريخ اللغة وتاريخ البلاغة والأساليب البلاغية التي كانت سائدة في ما مضى. هل لكي أؤلف كتابا في مهارات العربية أحتاج إلى كل ما كتب فيها من أدب ومن بلاغة ونثر وشعر أم أحتاج إلى بيان الطرق والعادات التي اتبعتها شخصيا فجعلتني متحدثا جيدا أوالطرق والعادات التي يتبعها بعض الأفراد حين يبهروننا بحديثهم وكتاباتهم¿