د. يحيى بن يحيى المتوكل –
مبادئ وأهداف اقتصاد السوق الاجتماعي لبناء دولة مؤسسية ديمقراطية
استكمالاٍ للمقالين السابقين حول اقتصاد السوق الاجتماعي واللتين تناولتا أبعاد التحديات والصعوبات التي أدت إلى فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ عام 1995م في إطار اقتصاد السوق الحر والحاجة إلى إعادة النظر في تلك الفلسفة والتحول إلى منهجُ آخر يلبي دعوات التغيير ويحرك عجلة التنمية تنتقل هذه المقالة الثالثة لتبرز مبادئ وأهداف اقتصاد السوق الاجتماعي والذي يعرف بأنه نظام اقتصادي قائم على المنافسة في ظل حرية السوق ومساندة الحكومة بعناصر حماية اجتماعية تمكن المجتمع من التطور المستمر. وتتصف فلسفة اقتصاد السوق الاجتماعي بأنها قادرة على التوافق مع أية أيديولوجية أو فكر سياسي وتوجه التركيز على إعادة بناء مفاصل الاقتصاد الوطني في إطار دولة مؤسسية قانونية وديمقراطية لتوفير الظروف المعيشية المناسبة للسكان.
لقد عكست التطورات والمتغيرات التي سادت نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين تغيراٍ نوعياٍ في عملية التنمية وفي آليات السوق ومهام الدولة والمطلوب هو إعادة تحديد دور ووظائف الدولة في ضوء الشراكة مع كل من القطاع الخاص والمجتمع المدني مما يوجب إشراك المجتمع بقطاعاته لتجسيد رؤية تنظر إلى التنمية باعتبارها عملية شاملة ومستدامة عملية مجتمعية يشارك فيها كل أفراد المجتمع عملية موجهة ومخطط لها عملية تحقق التوازن بين الريف والحضر وبين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وبين الحاضر والمستقبل وبين احتياجات الناس وسلامة البيئة ومواردها عملية توسع خيارات الناس وتحترم حقوقه وكرامته ولتتسع فيها فضاء الحريات العامة. فالسوق المنفتح وغير المقيد لا يتوافق بالضرورة مع النظام الديموقراطي فضلاٍ عن أن تبني اقتصاد السوق الحر لا يعنى أن تتم إدارة المجتمع وتسييره كملحق بالسوق. كذلك لا تقتضي التنمية في ظل نظام اقتصاد السوق الحر دولة ضعيفة بل تستلزم دولة فاعلة مؤسسياٍ وقانونياٍ تمكن الفقراء والفئات الأكثر هشاشة من تحسين معيشتهم. ويصبح الحكم الرشيد أيضاٍ ضرورة لكي يحقق اقتصاد السوق في حد ذاته نمواٍ ويتطور باستمرار أي أن النموذج الإنمائي الجديد يتطلب التوفيق بين ديناميكيات الرأسمالية في ظل اقتصاد السوق الحر وبين متطلبات الاستقرار السياسي والاجتماعي والمتمثلة في الآتي:
1. دور فاعل للدولة سياسياٍ واجتماعياٍ ومتوازن اقتصادياٍ.
2. دور اقتصادي فاعل للقطاع الخاص تشرف عليه الدولة وفق آليات السوق والمنافسة.
3. نمو المساهمة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المدني في ضوء الشراكة مع الدولة.
4. تعزيز الديموقراطية من خلال الحكم المحلي وتحسين شروط الحكم الرشيد المتمثلة في سيادة القانون واستقلال القضاء والشفافية ومحاربة الفساد.
5. ارتكاز التنمية الشاملة وشرط استدامتها التنمية البشرية.
6. تحقيق التمكين والإنصاف للفئات الفقيرة والمهمشة وإدماج المرأة والشباب في برامج التنمية.
ويشمل اقتصاد السوق الاجتماعي ثلاثة جوانب رئيسية هي المجتمع ويقصد به الموارد البشرية ومكوناتها القيمية وطموحاتها المستقبلية وكذلك السوق الذي يعتمد على آلية الطلب والعرض في تحقيق التوازن الاقتصادي وأخيراٍ البيئة التي تعني استدامة الموارد المادية والحفاظ عليها. وتبرز في هذا السياق ثلاثة مبادئ عامة يستند إليها اقتصاد السوق الاجتماعي تبدأ بما يسمى “الروح الفردية والمسئولية الذاتية” والتي تمثل المثالية الليبرالية والمعبر عنها بالملكية الخاصة والتنافس الحر مما يعني أن على الفرد بذل الجهد للحصول على التعليم الجيد والرعاية الكافية بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية. ويشير ” التضامن الاجتماعي” وهو المبدأ الثاني إلى أن الإنسان يتواجد في مجتمع تتجاذبه المصالح للتغلب على الظلم وبالتالي فإن الأفراد الأكثر ثراء في المجتمع عليهم المساهمة في تحسين الفرص ونوعية الحياة للأفراد الذين لا يستطيعون تحقيق المستوى اللائق للمعيشة والذي يمكن أن يتحقق من خلال الضرائب أو غيرها. أما المبدأ الثالث وهو “التبعية للدولة” فيعني أن على القاعدة المؤسسية تشكيل العلاقة بين المصالح الفردية والمبادئ التضامنية الاجتماعية لتضمن الحقوق الفردية وتمنحها الأولوية وبالتالي أن كل ما يمكن القيام به من قبل الأفراد لا ينبغي أن تقوم به الدولة مع المحافظة على دور فاعل للدولة خاصة في حالات الركود والكساد أو التضخم الجامح والكوارث الطبيعية وحماية البيئة.
وتشير هذه المبادئ إجمالاٍ إلى أن حقوق الفرد والحرية الاقتصادية تمثل الشرط الذي تنفذ من خلاله العدالة والتضامن الاجتماعي إذ يهدف اقتصاد السوق الاجتماعي إلى الموازنة بين مبادئ السوق ومبادئ المسئولية الاجتماعية وجعلها برنامجاٍ سياسياٍ واقتصادياٍ واجتماعياٍ متكاملاٍ. ففي مقابل ثقة الليبرالية التقليدية بعوامل العرض والطلب في إدارة اقتصاد السوق تضاءلت تلك الثقة وبرزت الحاجة إلى آليات إضافية تضمن الحماية الاجتماعية. وبالتالي يْعتبر اقتصاد السوق الاجتماعي توليفة سياسية اقتصادية تتجاوز آلية السوق في الفكر الليبرالي إلى مفهوم أخلاقي اجتماعي في النظريات الاجتماعية التنموية.
أما أهداف اقتصاد السوق الاجتماعي فتمتد من تحقيق النمو الاقتصادي إلى العدالة الاجتماعية وضمان الرعاية للمجتمع وإلى حماية البيئة. ويمكن تحديد تلك الأهداف في أهداف اقتصادية أهمها الاستقرار المالي والذي يتطلب الموازنة بين الإنفاق والإيراد وتغطية الإنفاق الجاري من عائدات الضرائب لضمان استقرار الأسعار والتوازن في التجارة الخارجية من خلال الصادرات والواردات لتحقيق استقرار أسعار الصرف والسعي لتحقيق التوظيف الكامل والذي يعكس الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية وتشجيع الابتكار والنمو الذي يعبر عن الاهتمام النوعي للإنتاج والسعي إلى تقديم منتجات جديدة بتقنيات حديثة تساعد على فتح أسواق وتؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي. وتتمثل الأهداف الاجتماعية في زيادة فرص التعليم وتشجيع الأفراد للالتحاق بالتعليم لضمان العدالة الاجتماعية وتطوير الجانب الصحي وتقديم الخدمات الطبية المناسبة وتوفير الرعاية الاجتماعية من خلال المعاش التقاعدي وأنظمة الحماية الأخرى والاهتمام بالسلوك والأخلاق وتفعيل المشاركة الفردية للمجتمع في خلق الثروة وأخيراٍ تحقيق النمو الشامل عبر الاهتمام المتوازن للجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي المقابل تتحقق الأهداف البيئية من خلال استخدام تقنيات حديثة صديقة للبيئة يمكن إيجازها في زيادة إنتاج الطاقة المتجددة والمحافظة عليها وتقليل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون والتخلص من النفايات.
ويجب الانتباه إلى حقيقة هامة هي أن الخروج من وهم الاعتقاد بأن الدولة ومن خلال تدخلاتها في كافة المجالات قادرة وبشكل منفرد على قيادة الاقتصاد وتحقيق التنمية والتقدم قد ينتهي إلى وهم آخر بأن توسيع دور القطاع الخاص وحده هو الطريق إلى تحقيق التنمية والازدهار. والواقع أنه لا بد من تحقيق التوازن بين الدورين في ضوء المعطيات والإمكانيات والقدرات المتاحة لكل منهما. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل يستطيع القطاع الخاص في اليمن القيام بدور إيجابي في عملية التحول الاقتصادي¿ وهل هو قادر على قيادة النشاط الاقتصادي نيابة عن الدولة¿
في حين يرى البعض أنه لا يمكن الاطمئنان كلية إلى تولي القطاع الخاص الوطني المهام الرئيسية في التحول الاقتصادي فإن على الدولة أن تساعد في توسيع وتطوير قطاع الأعمال وتدفع به لإقامة مؤسساته التمثيلية المستقلة والقادرة على ترجمة الشراكة مع الدولة بشكل فاعل في إطار التحول الاقتصادي. وفي المقابل على القطاع الخاص أن يؤطر ذاته ويعمل على تعزيز دوره من خلال تكتلات استثمارية كبيرة وشركات مساهمة تستطيع أن تسهم بدور رئيسي في النشاط الاقتصادي وتأسس لدور أكبر في المستقبل.