تعز/انطباعات/عبدالعزيز الزَريقي –
تبدأ الحكاية عندما شاهدت أجساد أكثر من مائة جندي شهيد وجريح تتطاير أشلاءٍ في ميدان السبعين ºو بحزام ناسف لإنسان لم يقدر قيمة الحياة.
ناقشنا أوضاع «صومر» التي لم يزرها أحد سوى عكفة الإمام قبل نصف قرن من الزمن!
الأولياء والصالحون يقطنون في قرية « حقنو » المعلقة على حافة الجبل
شْيع البعض إلى مقبرة الشهداء في صنعاء والبعض الآخر إلى مسقط الرأس.
وبعدها بفترة قصيرة… كان هناك حزام ناسف في حي المنصورة… ينتظر الشهيد اللواء الرْكن/ سالم قطنú ـ قائد المنطقة العسكرية الجنوبية ,وقائد حرب تحرير أبين من الإرهابيين وأعداء الحياة.
كان الحزن يغمر الكْل…. اليمن والرئيس وبما فيهم أنا بالطبع.
في هذه اللحظات أتاني صديقي وبادرني بالسؤال:كم من السنين لم تزر مسقط رأسك¿!
قلت له: أكثر من عشر سنوات من الجفاء والعقوق.
قال: كثير جدا.
قلت:أتفق معك.
قال: مارأيك نذهب إلى مسقط الرأس للزيارة ¿قلت:ليس معي الآن شيء سوى الحزن !!
قال : لا عليك ….لدي مال كاف وأريدك أن ترافقني يومين فقط إلى القرية وأنا أتكفل بالمواصلات والمصاريف.
ترددت كثيراٍ قبل الموافقة إلا أنه ألح عليِ وقال: إذا لم تذهب القرية ماشياٍ على قدميك سوف تسافرها محمولاٍ على سيارة.
إن كان يملك أهلك وقتها إيجار السيارة إلى القرية.
وافقته على مضض وعزمت السفر وهاكم بعض من تفاصيل رحلة الحزن والشجن هذه :
اتجهنا صوب مدينة التْربة مروراٍ بمنطقة ْتدعى (المرúكز)وفي هذا المكان إذا سألت فعن ثلاثة:
أستاذنا القدير/محمد المساح ومطعم الراسني والمرق البلدي والسيد (الممارع) جْبح.
وصلنا إلى مدينة التربة تلقفتنا سيارة من نوع (شاص) كانت مركونة بجوار فرزة التربة .
كان هنْاك إحساس مْوحش…… لم يكن يستقبْلنا أحد وأدركت حينها إن الروح المْفعمة بالمرح لم تعد هنا.
أعني روح عمنا( قشنون)….ولم يخرجن من ورطة هذا الشعور سوى عبارة للزميل /صلاح الدكاك (رحل الساقي…رحل الساقي).
انطلق بنا السائق وكانت السيارة ممتلئة بكل شيء (الأطفال واسطوانات الغاز والمسافرين) … وبالكاد تجد مكاناٍ للجلوس.
سرنا على بركة الله يلفنا الشوق إلى الأرض والأهل والذكريات الطيبة.
مررنا بشارع حديث مْعبد يربط بين مدينة التربة وعْزلة الزكيرة.
ولما سألت من بجواري: لمن يعود فضل متابعة شق وتعبيد هذا الطريق¿
قال لي أحدهم:النسب النائب البرلماني الأستاذ/زكريا الزكري وآخرون.
بعدها حاد بنا السائق إلى طريق ترابي لا يتجاوز طوله نصف كيلو مترـ قبل أن تنزلق بنا السيارة إلى نقيل الهْجمة.
و من هذه النقطة تبدأ رحلتي إلى جغرافية منسية لم يزرها احد سوى «العكفة» أيام الحكم الإمامي لجباية الزكاة وزارها «عكفة» آخرون بعد الجمهورية و بلباس جمهوري وزيارة يتيمة للأخ/ مْحسن فضل النقيب ـ محافظ لحج السابق ـ كإحدى ثمار الوحدة اليمنية المباركة.
فنقيل الهْجمة :ـ هو بوابة زريقة الشام الشمالية ,و مازال على حاله ,و يعد هذا النقيل واحداٍ من إنجازات الشهيد/عبد الرقيب القرشي في أواخر السبعينيات من القرن الماضيº وكان شقْه يعتمد على مشاركة الأهالي أيام هيئات التعاون الأهلي للتطوير و التي أسسها الشهيد الحمدي رحمه الله عام 76م.
ظل هذا الطريق على حالة حتى تم رصفه بالحجر (اللادي) من قبل رجل الخير سعيد الزكري ـ حالياٍ الأحجار غير مرصوفة بشكلُ متساو ,كما لا توجد حمايات على جانبي الطريق وصلنا أسفل النقيل في وقت المغرب ,وبدأ الظلام يلف المنطقة بكاملها ºوكذا الذاكرة بدأت تتلمس طريقها .
في وسط و أسفل النقيل شاهدت أعمدة الكهرباء وهي تضيء القرى المتناثرة على رؤوس الجبال هناك… وهي عبارة عن قرى تتبع عزلة «المقارمة» والتابعة لمديرية الشمايتين بمحافظة تعز.
في بداية (وادي فوان) هناك صخرة كبيرة انفلقت نصفين قيل لي : من أسفل النقيل أن هذه الصخرة تنتهي محافظة تعز ومن الجهة الأخرى للصخرة تبدأ محافظة لحج حسب التقسيم الإداري الجديد والذي مزق الزريقة شر ممزق وصعب وصول الخدمات التنموية إلى عزلها وقراها .
مشاهد النور المتناقضة!!
في بداية (وادي فوان) ما لفت نظري هو وجود بعض خزانات المياه الأرضية التي نفذها الصندوق الاجتماعي للتنمية ـ محافظة تعز ـ وكذا قرية (الكعبابي) والتي تبدو كمحمية طبيعية.
أيضا الرفيق/سعيد الْبصالي لم يعد أمام منزله يستقبل ويلوح للزائرين لقد توفاه الله.
واصلنا السير كان الليل يطوينا و بعدها لم أر إلا بيوتاٍ في قرى متناثرة على الجبال تْضاء بالفوانيس التي تستخدم الكيروسين.
لفتت نظري قرية مْضاءة مْعلقة على حافة جبل تْدعى(حقنو) يقطنْها السادة والأولياء والصالحون.
وتْناظرها قرية على سفح جبل منخفض نسبياٍ تْدعى(حْلمة)… وإذا أردت أن تعرف تفاصيل حياتها فاسأل عن عمنا حسن أبو حديد. .. يأتيك بالخبر اليقين!
مررنا بمنطقة (الدْريح ) وهي منطقة ذات كثافة سكانية يحلو للبعض أن يطلق عليها عاصمة زريقة الشام ºويوجد بها دار الشيخ / سعيد حسن ـ أحد أبرز مشايخ زريقة الشام رحمه الله.
وكذا المْستشفى الرئيسي في القرية ºومدرسة مْنيف التي تلقيت تعليمي الأساسي فيها.
في المنطقة جامعان حديثان واحد لأنصار الإصلاح والآخر لأنصار مجموعة سلفية تتبع الداعية المتوفي/ الشيخ مقبل الوادعي تتقاسمان (إرث الشيوعية) في المنطقة معاٍ!
عدت مرة أْخرى لأرى النور من جديد …هذه المرة عبر مولد كهربائي تابع لمستوصف ومدرسة منيف.
فجأة وبلا سابق إنذار أرى عموداٍ كهربائياٍ منزوع الأسلاك!
قلت: ما الذي أتى به إلى هنا¿!!
قال لي صديقي طلال الذي كان يرافقني في الرحلة وبسرعة: أستاذي النائب البرلماني /علي المعمري وعلى أمل أن يأتي مشروع الربط الكهربائي للمنطقة في اعتماد موازنة هذا العام2012م.
اقتربت من قريتي واسمها قرية(صِومِر) وفي أسفلها شاهدت بقعة من النور وضوضاء كبيرة تملأ المكان فلما سألت قيل لي: يوجد مشروع مياه ريفي يضخ المياه إلى الخزانات الفرعية وحتى منتصف الليل ..وهو ثمرة لجهد فردي قام به الأستاذ/ عبد الجليل أحمد محمد ـ وفي متابعة حثيثة لمشاريع مياه الريف.
التفت يميناٍ شاهدت أنوار الكهرباء تنبعث من بعض البيوت فلما سألت من أين هذه الأنوار قيل لي : بعض الميسورين في القرية يملكون خلايا شمسية تْولد منها الكهرباء.
انعطفت بنا السيارة صعوداٍ باتجاه منزلي شاهدت مرة أخرى بقع الضوء المنبثقة من فوانيس الكيروسين.
وبعد رحلة طويلة ومرهقة ومشاهد النور المتناقضة !وصلنا أخيرا إلى منزل خاليº وحطينا رحالنا في شْرفة المنزل و بعد ساعتين من الزمن وهي المسافة التي قطعناها من التْربة إلى مسقط الرأس.
استرحنا بضع الوقت للتخلص من الإرهاق الناتج عن وعورة الطريق .
تناولنا العشاء وبعدها بدأنا السمرة كانت الليلة مْقمرة وتحت السماء تتلامع فيها النجوم… وما أحلى السمر في الليالي المْقمرة حيث تمنحك الفرصة لاختلاس لحظات للمشاهدة والتأمل في الآفاق البعيدة للحياة والكون .
أنظر من مكاني في الفضاء القريب…. فلا أرى سوى جبل يتشكل في هيئة قوسٍ قزْح ومْؤلف من قرْى مْعلقة و مْضاءة تتوزع بانسياب على حواف الجبل… يمتد ْ هذا المشهد الآسر من عْزلة المساحين وانتهاء بقرى عْزلة الزعازع …قبل أن تحتجب الرؤية مع وصول بصري نهاية الجبل في منطقة تْدعى (المصيرة).
لما علم شباب القرية ورجالها بمقدمنا تسللوا إلينا واحداٍ واحداٍ حتى امتلأ سقف المنزل بهم.
إنها الفرحة واللهفة بالغريب…. وكعادة أهل القرية بالترحيب بالضيف وبمشاعر صادقة ليس بها تكلف.
في السمرة ناقشنا آخر الأخبار السياسية وأحوال البلد وعن أسباب الزيارة ـ خصوصا بالنسبة لي وبعد غياب طويل ,وسألونا عن أحوال وصحة الأهل في المدينة.
لاحظت بعض الوجوه غائبة فلما سألت الحاضرين قيل لي: إنهم يشاهدون المسلسل التركي للبطل (مراد علمدار) !,وفي إحدى البيوت لشخص يملك كهرباء توْلد من الخلايا الشمسية ـ فأدركت أن الثقافة التركية غزت الزريقة قبل أن تغزوها حكومات اليمن المْتعاقبة!!
قبل الخلود إلى النوم.. استأذنونا بالمغادرة على أمل اللقاء بهم في اليوم التالي.
رجل من الزمن الجميل
في الصباح التالي استيقظت مبكراٍ واستقبلني هواء نقياٍ استنشقته و كنا أربعة: أنا والطيور وحفيف وتمايل الأشجار ورجل شائب من الزمن الجميل ينحني للأرض احتراما.
وبعد ساعة من الزمن …شاهدت امرأتان تلحق بنا من منطقة مجاورة تشد الرحال إلى سيد القرية لغرض التداوي من العلل .
ولما بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية في كل أرجاء القرية ـ وجدت كل شيء مازال على حاله سوى بعض التغير الطفيف في جغرافية المكان نتيجة عوامل التعرية ومياه الأمطار والسيول .
رأيت بعض المدرجات التي نحتتها أقدام أجدادنا ,والتي تتعرض اليوم للسقوط نتيجة جحود وإهمال الجيل الحالي للمدرجات الزراعية ـ كنتيجة لفقدان العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض.
استغرقت في التفكير والتأمل الطويل والعميق والبعيد عن متاعب الحياة اليومية وأدرانها ,وحاولت إعادة اكتشاف نفسي …..مثلاٍ عن حياة الفتوة والمراهقة المْفعم بالمغامرة والأحلام والدْعابة,و أحاول أتذكر تفاصيل الحياة اليومية المليئة بضحكات الأطفال وعبث الرجال ونظرات شاردة من بنات عابرات تروض الجبل وحكايات جانبية على البئر ـ إلا أن ذلك يبدو محاولة بائسة للعودة إلى ذكريات الزمن السحيق.
كانت ترتفع روحي طبقات عالية من التصوف الديني ومن السمو والراحة والإستكانة والهدوء في محاولة خائبة لتلاقى روحي مع روح أجدادي.
فحياة القرية معناها… الأمان والطمأنينة الذي لم أجده في قلب وعواصم المدن الرئيسية في بلدنا الحبيب ـ حيث كنا نظل في بطن الوادي حتى وقت متأخر من الليل ºوالنساء تتنقل من مكان إلى آخر دون أن يتعرض لهن أحد ,و في غياب تام للمدرعات والمصفحات والمْسلحين المْلثمين!!
وجدتْ البيوت الطينية المهجورة لأجدادي الذين توفاهم الله ,و قد أصبحت خرابة والبعض منها تساقطت أحجارها و أخشابهاـ ولم تعد صالحة للسكن وفي طريقها إلى أن يطويها النسيان .
تفرست في الوجوه التي حفر فيها الزمن وآثار التاريخ والجغرافيا على وجوههم والملابس.
حاولت أن أتلمس الحياة البسيطة في القرية والتي تميل إلى التقشف والزهد.
وجدت بتول القرية (على الكبير)وقد رسم الزمن علامات الهرم والتجاعيد على وجه .
القيت عليه التحية ثم صافحته بحررة وأصابتني الحيرة من أين أبدأ!
لقد وجدت الرجل أصيب بالعمى ºولم يعد يعرفني إلا من الكلام وبعد أن بدأت اعرفه بنفسي.
سألت : أين (عباس علي) شاقي القرية¿ فتمكنت من اللقاء به في اليوم التالي في جلسة مقيل.
كانت المفاجأة عندما وجدته في صحة جيدة إلا من بعض الحواس المفقودة كالسمع.
ظليت أرقب المكان بلهفة وشوق وأعود بذكرياتي إلى الوراء وإلى طفولتي و الناس الذين أعرفهم. بحثت عن عجائز القرية اللاتي كنت أبتاع منهن البيض ـ ولكن لم يعد بالإمكان اللقاء بهم…. كون الموت قد سبقني إليهم .
زرت مقبرة السيدة هاجرºومقبرة الأطفال في القرية …. وأتذكر عندما كنت صغيراٍ شاركت في تشييع طفل وحينها سألت خالي رحمه الله ببراءة : ستدفنوني هنا!! قال: إن شاء الله في مقبرة الكبار!
عْدت من زيارة المقبرة ….فقابلني صديقي طلال بابتسامة صفراء تخلو من العاطفة قائلاٍ:هل حفرت لك قبراٍ¿!
ودعت الأمكنة بأغلى وأرقى لغة يعبر بها الإنسان وهي الدموع… التي سكبتها مدراراٍ على الأرض. الأرض التي عجنت شخصيتي بجغرافيتها وتضاريسها وتاريخها والثقافة وما يلحق بها من عادات وتقاليد .
هذه الشخصية التي تجمع بين قساوة الجغرافيا والتناغم بين الذات العميقة المْتطلعة والمنبثق عنها وجداني الذي يتبلور كل لحظة.
فضاء مليء بالدهشة والتساؤل
لم أتمكن لضيق الرحلة من زيارة محمية (القْرير) الطبيعية وهي عبارة عن أراض طينية من أملاك جدي(أبو والدتي) وأبناء عمة ويوجد بها أشجار كثيفة من النخيل والقرض و العسق ونباتات متنوعةº والقرود التي تتراقص على رؤوس الجبال ,وكذا أنواع مختلفة من الطيور متعددة الألوان.
º وقرية (هبي) التي لي فيها بعض ذكريات الطفولة والصداقات الجميلة.
كذلك قرية(الأوúهر) وقرية( دسن)هاتان المنطقتان تتميزان بكثرة الأفلاج الطبيعية وأحواض وبرك السباحة ـ حيث بإمكانك ممارسة هواية السباحة في موسم الأمطار ولمدة تمتد إلى ستة أشهرºو عوضا عن رؤيتك لشلال طبيعي في نهاية قرية (دسن) ارتفاعه أكثر من مائتي متر تقريباٍ وتنتهي مياهه لسقيا الحقول الزراعية المجاورة.
كذلك لم أزر منطقة البارد في قرية (صومر الأعلى) رغم الدعوة التي تلقيتها من أحد أصدقائي إلا أنني تذوقت و ريقات قات البارد عن طريق بائع متجول.
عدت لتناول الصبوح بعد جولة قصيرة كانت شاقة ومضنية على النفس وفضاء مليء بالتساؤل والدهشة !!
كنت كل ما أمر بجوار بيت يكمني أهلْها الطيبون ويدعونني لتناول وجبة الإفطار فأرد عليهم بالاعتذارـ إلا من خالتي التي أكرمتني بوجبة إفطار كانت عبارة عن قطعة خبز جاف مع حليب الأبقار والأغنام ـ حيث مازالت المصادر الحيوانية والنباتية هي المصدر الرئيسي للغذاء و في منافسه محمومة مع منتجات مجموعة هائل سعيد أنعم!
اكتشفت أن بعض البيوت ودعت مواقد النار من الأحطاب واستبدلتها باسطوانات الغاز وهناك فرق طبعاٍ بين الطعام المطهي بالحطب والرائحة الطيبة التي تملأ جو المكان والطهي بالغاز.
وفي تمام الحادية عشرة قبل منتصف اليوم كان بائع القات يلوح لنا من تحت ظل شجرة نخيل موجودة هناك في قعر الوادي ,وكوننا عدانية(مصطلح يطلق على كل من أتى من المدينة وخصوصا من مدينة عدن) وميسوري الحال.
توجهنا بعدها باحثين عن الوالد/ أحمدالدناني هذا الرجل وما يحمله من الحكمة والفلسفة والحب والقارئ النهم لحكم وأمثال وحكايات الأقدمين وعلى مر عصور وتاريخ الإسلام السالفة ـ وإذا سافرت إلى القرية ولم تتمكن بالجلوس معه كأنك لم تسافر.
وجدناه فرحب بنا وقدم لنا الشاي وقارورة حليب ـ وهذا شأن أهل القرية يجودون لضيوفهم بالحليب والعسل والسمن والبيض وهو أغلى ما يملكونه.
جلسنا على ظل شجرة معمرة تدعى عندنا (الإثúابي)وهي شجرة تمتد بظلالها إلى مساحة كبيرة من الأرض.
تحدثنا عن بعض الأمور الحياتية وكان الوقت يقترب من منتصف الظهيرة ولما حل وقت الغداء ودعناه,رغم إلحاحه علينا بالغداء عنده ….على أمل اللقاء في اليوم التالي والحديث بشكل مطول عن كافة جوانب الحياة وذكريات الأيام الخالية.
إثارة المشكلات السياسية
في اليوم التالي التقيناه تحت ظل شجرة معمرة(الإثابي) وهي شجرة عملاقة دهرية و ورافة الظلال وأكبر من التي جلسنا تحتها اليوم الأول.. اعتاد الناس المقيل ومضغ وتخزينه القات تحتها منذْ عقود من الزمن.
بدأنا كعادة اليمنيين في المقايل بالحديث وإثارة المشكلات السياسية وما يواجه اليمن من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية وكيفية الخروج من الوضع القائم¿!!
وهل هناك انفراج حقيقي للوضع السياسي …. لكي نتفرغ لبناء اليمن الجديد ¿!وتطرقنا حينها إلى موضوع الانتخابات المصرية وكانت النتائج لم تحسم بعد لأحد المْرشحين.
تحدثنا عن تجربة أستاذ/ الرياضيات سيف سعيد مع الكتاب الثلاثي و محاولته لجمع الإنس والجن معاٍ ودون عناءـ إلا انه أصيب بلوثة عقلية قبل أن يتمكن من ذلك !وما يتذكره من هذه التجربة هي عبارة عن جملة تقول: اكتب يا أستاذ سيف ما يْملي عليك ….الجان مرجان!!
بعدها انحرف بنا الحديث عن القرية وأحوالها ونوبات الجفاف التي ضربت المنطقة والمعاناة من نقص المياه وشحة الأمطار التي لم تتساقط منذْ أكثر من عام ونصف وما خلفته من آثار كارثية على الإنسان والحيوان وكان هذا هو الهم الأساسي لسكان القرية.
أصابني الألم عندما رأيت بعض الماعز وهي تمْد لسانها الصغيرة بحثا عن العشب التائه فلا تجده ºوكذا لم أعد أرى وأسمع زقزقة بعض الطيور التي أعْتدت على سماعها …قبل سنوات بسب هذه الظروف المناخية السيئة و الاصطياد العشوائي لها.
فمصدر رزق سكان القرية الوحيد يعتمد على الزراعة والرعي وتربية النحل وبيع التمور.. وكلاهما يعتمد على المطر…وزاد المعاناة سوءاٍ هو غياب دور الجهات الحكومية و التقصير في متابعة تنفيذ الحواجز المائية والسدود التي وعدت بها سابقاٍ ـ وبرغم الزيارات المتكررة إلى القرية من قبل مسئولين في مكتب الزراعة ـ إلا أن الوضع الحالي مازال على حالة ولم ينفذ شيء منها.
تألمت لمنظر الأراضي الزراعية الطينية الواسعة التي طمرتها السيول قبل عشرة أعوام وكانت تزين الوادي ببساط من الخضرة على مدى العام.
ولما سألت ماذا فعلت السلطة المحلية بهذا الخصوص¿!! قيل لي: أرسلت لجان قامت بتصوير آثار الكارثة ,وما خلفته السيول..ولم تعد بجواب حتى اليوم و بعد أن أخذت بدل السفر!!
وبالتالي بقاء الوضع كما هو دون وضع حلول ومعالجات وإعادة الأرض إلى أهلها ـ يمثل خسارة فادحة للأرض والإنسان.
أخبرني الوالد/ أحمدالدناني أن هذه الأرض بدأت تتعرض للتجريف بعد كل سيول جديدة على المنطقةـ مما يعنى إذا لم تتدارك السلطة المحلية هذا الأمر .. فإن الأراضي الزراعية ستفقد إمكانياتها بالعطاء مرة أخرى ـ وهذا الأمر إن حدث معناه زيادة حالات الفقرº والتي تعتمد على العمل في الزراعة ºو بالتالي ضياع أرض الأجداد التي ورثناها كابراٍ عن كابر.
حالات من البؤس والفقر
تحدثنا عن زيادة حالات وهامش الفقر والبؤس الذي بدأ يزحف على الأسر التي كانت ميسورة الحال.
ساعد ذلك غياب البرامج التنموية للتخفيف من الفقر سواء للمنظمات الإنسانية الدولية أو الحكومية أو غير الحكومية ـ والتي كانت ستسهم بشكل ايجابي في تعليم النساء مهن وحرف يدوية تساعد في زيادة دخل الأسرة ºوكذا غياب صناديق الإقراض والتمويل الأصغر لدعم المشاريع الصغيرة.
يجدر الملاحظة غياب أي معهد تقني أو مهني رغم تخرج عدد كبير من طلبة الثانوية العامة ـ ولأكثر من ألف طالب سنويا ….والذين إما لا يستطيعون إكمال تعليمهم الجامعي ويلتحقون في المهن العسكرية كأقصر الطرق ـ أو يلتحقون في بيوت أهليهم في المدينة لمتابعة التعليم الجامعي.
حدثني الوالد/أحمد الدناني: أن هناك قصوراٍ في المسح الاجتماعي للحالات الفقيرة من قبل مكتب صندوق الرعاية الاجتماعية في المحافظة والذي يغلب عليه المسح الحزبي ـ حسب قوله ـ مما يْحرم الكثير من الأسر والحالات المستحقة.
انتقد أيضا والكلام للدناني : طريقة وأسلوب توزيع مساعدة مجموعة هائل سعيد انعم رحمه اللهº و من قبل اللجان المرسلة إلى المنطقة ــ حيث تختار اللجنة أعلى بقعة مرتفعة! ثم تنادي على العجائز للصعود إلى أعلى الجبل لاستلام المساعدة وقال: البعض منهن تصل واللجنة قد غادرت والبعض تعمل إلى نصف الطريق وتلتفت إلى مشقة المكان…. فتقفل راجعة دون الوصول إلى الكشوفات والبعض تنظر من أسفل الجبل إلى أعلى قائلة:( الله لا دخل هذا الرزق) فتعود اللجنة منتشية بالكشوفات والأموال كوفر متحقق !!
وللإنصاف فلقد ساهمت جمعية الإصلاح الاجتماعية الخيرية وجمعية الصالح الخيرية في التخفيف من آثار الفقر وبالرغم من شكاوى بعض الأهالي من تسييس بعض الحالات التي تستهدفها وتركها لأسر أكثر استحقاقا لهذه المعونة.
كل هذه الظروف البيئية والمعيشية الصعبة ..أدت إلى هجرة بعض الأسر إلى المدينة وفك الارتباط مع الأرض التي لم تعد تثمر شيئاٍ.
الوداع الأخير!
وفي معرض زيارتي… التقيت بالأستاذ/ أحمد محمد صالح ـ مدير مشروع المياه ,و كان مشغول جداٍ و تأسف لعدم قدرته على الجلوس معنا ـ نتيجة لانشغالاته الكبيرة بأعمال المشروع وفي دقائق معدودة شكا الأهالي وعدم سدادهم لما عليهم من فواتير وخصوصا النخبة و كذا بعض الصعوبات المالية والفنية التي يواجهها وعدم تقدير الأهالي نعمة هذا المشروع الذي لولاه لهجر الأهالي كلهم القرية ,ولظروف الجفاف التي تضرب الزريقة ولمدة أكثر من عام ونصف.
ودعنا القرية والأهل والأصدقاء ومعنا أسرة صديقي…. صعدنا على ظهر السيارة (الشاص) و لحق بنا افراد من أْسرنا يقومون بالوداع الأخير.
نظرت إليهم وإذا بالحزن يغشى وجوههم لهجرة أسرة جديدة وما ستخلفه من فراغ ولأكثر من سبعة أفراد.
عاودت النظر إليهم كرة أخرى والدموع تنهمر مدراراٍ من أعينهم لتْسقي الأرض….. عوضا عن قلة سقوط الأمطار والجفاف .
بعدها رفعنا أيدينا إلى الله بالدعاء أن يغيث هذه القرية وأهلها بالغيث المدرار….اللهم آمين.