ودعنا الثورة في‮ ‬تعز واستقبلنا الظلام في‮ ‬لحج‮..‬


تعز/انطباعات/عبدالعزيز الزَريقي –
تبدأ الحكاية عندما شاهدت أجساد أكثر من مائة جندي‮ ‬شهيد وجريح تتطاير أشلاءٍ‮ ‬في‮ ‬ميدان السبعين ºو بحزام ناسف لإنسان لم‮ ‬يقدر قيمة الحياة‮.‬

ناقشنا أوضاع‮ «‬صومر» ‬التي‮ ‬لم‮ ‬يزرها أحد سوى عكفة الإمام قبل نصف قرن من الزمن‮!‬

الأولياء والصالحون‮ ‬يقطنون في‮ ‬قرية‮ « ‬حقنو‮ » ‬المعلقة على حافة الجبل

شْيع البعض إلى مقبرة الشهداء في‮ ‬صنعاء والبعض الآخر إلى مسقط الرأس‮.‬
وبعدها بفترة قصيرة‮… ‬كان هناك حزام ناسف في‮ ‬حي‮ ‬المنصورة‮… ‬ينتظر الشهيد اللواء الرْكن‮/ ‬سالم قطنú‮ ‬ـ قائد المنطقة العسكرية الجنوبية‮ ‬‭,‬وقائد حرب تحرير أبين من الإرهابيين وأعداء الحياة‮.‬
كان الحزن‮ ‬يغمر الكْل‮…. ‬اليمن والرئيس وبما فيهم أنا بالطبع‮.‬
في‮ ‬هذه اللحظات أتاني‮ ‬صديقي‮ ‬وبادرني‮ ‬بالسؤال:كم من السنين لم تزر مسقط رأسك¿‮!‬
قلت له‮: ‬أكثر من عشر سنوات من الجفاء والعقوق‮.‬
قال‮: ‬كثير جدا‮.‬
قلت:أتفق معك‮.‬
قال‮: ‬مارأيك نذهب إلى مسقط الرأس للزيارة ¿قلت:ليس معي‮ ‬الآن شيء سوى الحزن‮ !!‬
قال‮ : ‬لا عليك‮ ….‬لدي‮ ‬مال كاف وأريدك أن ترافقني‮ ‬يومين فقط إلى القرية وأنا أتكفل بالمواصلات والمصاريف‮.‬
ترددت كثيراٍ‮ ‬قبل الموافقة إلا أنه ألح‮ ‬عليِ‮ ‬وقال‮: ‬إذا لم تذهب القرية ماشياٍ‮ ‬على قدميك سوف تسافرها محمولاٍ‮ ‬على سيارة‮. ‬
إن كان‮ ‬يملك أهلك وقتها إيجار السيارة إلى القرية‮.‬
وافقته على مضض وعزمت السفر‮ ‬وهاكم بعض من تفاصيل رحلة الحزن والشجن هذه‮ :‬
اتجهنا صوب مدينة التْربة مروراٍ‮ ‬بمنطقة‮ ‬ْتدعى‮ (‬المرúكز)وفي‮ ‬هذا المكان إذا سألت فعن ثلاثة‮:‬
‮ ‬أستاذنا القدير/محمد المساح ومطعم الراسني‮ ‬والمرق البلدي‮ ‬والسيد‮ (‬الممارع‮) ‬جْبح‮.‬
وصلنا إلى مدينة التربة تلقفتنا سيارة من نوع‮ (‬شاص‮) ‬كانت مركونة بجوار فرزة التربة‮ .‬
كان هنْاك إحساس مْوحش‮…… ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يستقبْلنا أحد‮ ‬وأدركت حينها إن الروح المْفعمة بالمرح لم تعد هنا‮.‬
أعني‮ ‬روح عمنا‮( ‬قشنون‮)….‬ولم‮ ‬يخرجن من ورطة هذا الشعور سوى عبارة للزميل‮ /‬صلاح الدكاك‮ (‬رحل الساقي‮…‬رحل الساقي‮).‬
انطلق بنا السائق وكانت السيارة ممتلئة بكل شيء‮ (‬الأطفال واسطوانات الغاز والمسافرين‮) … ‬وبالكاد تجد مكاناٍ‮ ‬للجلوس‮.‬
سرنا على بركة الله‮ ‬يلفنا الشوق إلى الأرض والأهل والذكريات الطيبة‮.‬
مررنا بشارع حديث مْعبد‮ ‬يربط بين مدينة التربة وعْزلة الزكيرة‮.‬
ولما سألت من بجواري‮: ‬لمن‮ ‬يعود فضل متابعة شق وتعبيد هذا الطريق¿
‮ ‬قال لي‮ ‬أحدهم:النسب النائب البرلماني‮ ‬الأستاذ/زكريا الزكري‮ ‬وآخرون‮.‬
بعدها حاد بنا السائق إلى طريق ترابي‮ ‬لا‮ ‬يتجاوز طوله نصف كيلو مترـ قبل أن تنزلق بنا السيارة إلى نقيل الهْجمة‮.‬
و من هذه النقطة تبدأ رحلتي‮ ‬إلى جغرافية منسية لم‮ ‬يزرها احد سوى‮ «‬العكفة‮» ‬أيام الحكم الإمامي‮ ‬لجباية الزكاة‮ ‬وزارها‮ «‬عكفة‮» ‬آخرون بعد الجمهورية و بلباس جمهوري‮ ‬وزيارة‮ ‬يتيمة للأخ‮/ ‬مْحسن فضل النقيب ـ محافظ لحج السابق ـ كإحدى ثمار الوحدة اليمنية المباركة‮.‬
فنقيل الهْجمة‮ :‬ـ هو بوابة زريقة الشام الشمالية‮ ‬‭,‬و مازال على حاله‮ ‬‭,‬و‮ ‬يعد هذا النقيل واحداٍ‮ ‬من إنجازات الشهيد/عبد الرقيب القرشي‮ ‬في‮ ‬أواخر السبعينيات من القرن الماضيº وكان شقْه‮ ‬يعتمد على مشاركة الأهالي‮ ‬أيام هيئات التعاون الأهلي‮ ‬للتطوير و التي‮ ‬أسسها الشهيد الحمدي‮ ‬رحمه الله عام‮ ‬76م‮.‬
ظل هذا الطريق على حالة حتى تم رصفه بالحجر‮ (‬اللادي‮) ‬من قبل رجل الخير سعيد الزكري‮ ‬ـ حالياٍ‮ ‬الأحجار‮ ‬غير مرصوفة بشكلُ‮ ‬متساو‮ ‬‭,‬كما لا توجد حمايات على جانبي‮ ‬الطريق وصلنا أسفل النقيل في‮ ‬وقت المغرب‮ ‬‭,‬وبدأ الظلام‮ ‬يلف المنطقة بكاملها ºوكذا الذاكرة بدأت تتلمس طريقها‮ .‬
في‮ ‬وسط و أسفل النقيل شاهدت أعمدة الكهرباء وهي‮ ‬تضيء القرى المتناثرة على رؤوس الجبال هناك‮… ‬وهي‮ ‬عبارة عن قرى تتبع عزلة‮ «‬المقارمة‮» ‬والتابعة لمديرية الشمايتين بمحافظة تعز‮.‬
في‮ ‬بداية‮ (‬وادي‮ ‬فوان‮) ‬هناك صخرة كبيرة انفلقت نصفين قيل لي‮ : ‬من أسفل النقيل أن هذه الصخرة تنتهي‮ ‬محافظة تعز‮ ‬ومن الجهة الأخرى للصخرة تبدأ محافظة لحج حسب التقسيم الإداري‮ ‬الجديد‮ ‬والذي‮ ‬مزق الزريقة شر ممزق‮ ‬وصعب وصول الخدمات التنموية إلى عزلها وقراها‮ .‬

مشاهد النور المتناقضة‮!!‬
في‮ ‬بداية‮ (‬وادي‮ ‬فوان‮) ‬ما لفت نظري‮ ‬هو وجود بعض خزانات المياه الأرضية التي‮ ‬نفذها الصندوق الاجتماعي‮ ‬للتنمية ـ محافظة تعز ـ وكذا قرية‮ (‬الكعبابي‮) ‬والتي‮ ‬تبدو كمحمية طبيعية‮.‬
أيضا الرفيق/سعيد الْبصالي‮ ‬لم‮ ‬يعد أمام منزله‮ ‬يستقبل ويلوح للزائرين لقد توفاه الله‮.‬
واصلنا السير كان الليل‮ ‬يطوينا و بعدها لم أر إلا بيوتاٍ‮ ‬في‮ ‬قرى متناثرة على الجبال تْضاء بالفوانيس التي‮ ‬تستخدم الكيروسين‮.‬
لفتت نظري‮ ‬قرية مْضاءة مْعلقة على حافة جبل تْدعى(حقنو‮) ‬يقطنْها السادة والأولياء والصالحون‮.‬
وتْناظرها قرية على سفح جبل منخفض نسبياٍ‮ ‬تْدعى(حْلمة‮)… ‬وإذا أردت أن تعرف تفاصيل حياتها فاسأل عن عمنا حسن أبو حديد‮. .. ‬يأتيك بالخبر اليقين‮!‬
مررنا بمنطقة‮ (‬الدْريح‮ ) ‬وهي‮ ‬منطقة ذات كثافة سكانية‮ ‬يحلو للبعض أن‮ ‬يطلق عليها عاصمة زريقة الشام ºويوجد بها دار الشيخ‮ / ‬سعيد حسن ـ أحد أبرز مشايخ زريقة الشام رحمه الله‮. ‬
وكذا المْستشفى الرئيسي‮ ‬في‮ ‬القرية ºومدرسة مْنيف التي‮ ‬تلقيت تعليمي‮ ‬الأساسي‮ ‬فيها‮. ‬
في‮ ‬المنطقة جامعان حديثان واحد لأنصار الإصلاح والآخر لأنصار مجموعة سلفية تتبع الداعية المتوفي‮/ ‬الشيخ مقبل الوادعي‮ ‬تتقاسمان‮ (‬إرث الشيوعية‮) ‬في‮ ‬المنطقة معاٍ‮!‬
عدت مرة أْخرى لأرى النور من جديد‮ …‬هذه المرة عبر مولد كهربائي‮ ‬تابع لمستوصف ومدرسة منيف‮.‬
فجأة وبلا سابق إنذار أرى عموداٍ‮ ‬كهربائياٍ‮ ‬منزوع الأسلاك‮!‬
قلت‮: ‬ما الذي‮ ‬أتى به إلى هنا¿‮!!‬
قال لي‮ ‬صديقي‮ ‬طلال الذي‮ ‬كان‮ ‬يرافقني‮ ‬في‮ ‬الرحلة وبسرعة‮: ‬أستاذي‮ ‬النائب البرلماني‮ /‬علي‮ ‬المعمري‮ ‬وعلى أمل أن‮ ‬يأتي‮ ‬مشروع الربط الكهربائي‮ ‬للمنطقة في‮ ‬اعتماد موازنة هذا العام2012م‮.‬
اقتربت من قريتي‮ ‬واسمها قرية(صِومِر‮) ‬وفي‮ ‬أسفلها شاهدت بقعة من النور وضوضاء كبيرة تملأ المكان فلما سألت قيل لي‮: ‬يوجد مشروع مياه ريفي‮ ‬يضخ المياه إلى الخزانات الفرعية وحتى منتصف الليل‮ ..‬وهو ثمرة لجهد فردي‮ ‬قام به الأستاذ‮/ ‬عبد الجليل أحمد محمد ـ وفي‮ ‬متابعة حثيثة لمشاريع مياه الريف‮.‬
التفت‮ ‬يميناٍ‮ ‬شاهدت أنوار الكهرباء تنبعث من بعض البيوت فلما سألت من أين هذه الأنوار قيل لي‮ : ‬بعض الميسورين في‮ ‬القرية‮ ‬يملكون خلايا شمسية تْولد منها الكهرباء‮.‬
انعطفت بنا السيارة صعوداٍ‮ ‬باتجاه منزلي‮ ‬شاهدت مرة أخرى بقع الضوء المنبثقة من فوانيس الكيروسين‮.‬
وبعد رحلة طويلة ومرهقة ومشاهد النور المتناقضة‮ !‬وصلنا أخيرا إلى منزل خاليº وحطينا رحالنا في‮ ‬شْرفة المنزل و بعد ساعتين من الزمن وهي‮ ‬المسافة التي‮ ‬قطعناها من التْربة إلى مسقط الرأس‮.‬
استرحنا بضع الوقت للتخلص من الإرهاق الناتج عن وعورة الطريق‮ .‬
تناولنا العشاء‮ ‬وبعدها بدأنا السمرة كانت الليلة مْقمرة وتحت السماء تتلامع فيها النجوم‮… ‬وما أحلى السمر في‮ ‬الليالي‮ ‬المْقمرة حيث تمنحك الفرصة لاختلاس لحظات للمشاهدة والتأمل في‮ ‬الآفاق البعيدة للحياة والكون‮ .‬
أنظر من مكاني‮ ‬في‮ ‬الفضاء القريب‮…. ‬فلا أرى سوى جبل‮ ‬يتشكل في‮ ‬هيئة قوسٍ‮ ‬قزْح ومْؤلف من قرْى مْعلقة و مْضاءة تتوزع بانسياب على حواف الجبل‮… ‬يمتد‮ ‬ْ‮ ‬هذا المشهد الآسر من عْزلة المساحين وانتهاء بقرى عْزلة الزعازع‮ …‬قبل أن تحتجب الرؤية مع وصول بصري‮ ‬نهاية الجبل في‮ ‬منطقة تْدعى‮ (‬المصيرة‮).‬
لما علم شباب القرية ورجالها بمقدمنا تسللوا إلينا واحداٍ‮ ‬واحداٍ‮ ‬حتى امتلأ سقف المنزل بهم‮.‬
إنها الفرحة واللهفة بالغريب‮…. ‬وكعادة أهل القرية بالترحيب بالضيف وبمشاعر صادقة ليس بها تكلف‮.‬
في‮ ‬السمرة ناقشنا آخر الأخبار السياسية وأحوال البلد وعن أسباب الزيارة ـ خصوصا بالنسبة لي‮ ‬وبعد‮ ‬غياب طويل‮ ‬‭,‬وسألونا عن أحوال وصحة الأهل في‮ ‬المدينة‮.‬
لاحظت بعض الوجوه‮ ‬غائبة فلما سألت الحاضرين قيل لي‮: ‬إنهم‮ ‬يشاهدون المسلسل التركي‮ ‬للبطل‮ (‬مراد علمدار‮) !‬‭,‬وفي‮ ‬إحدى البيوت لشخص‮ ‬يملك كهرباء توْلد من الخلايا الشمسية ـ فأدركت أن الثقافة التركية‮ ‬غزت الزريقة قبل أن تغزوها حكومات اليمن المْتعاقبة‮!!‬
قبل الخلود إلى النوم‮.. ‬استأذنونا بالمغادرة على أمل اللقاء بهم في‮ ‬اليوم التالي‮.‬

رجل من الزمن الجميل
في‮ ‬الصباح التالي‮ ‬استيقظت مبكراٍ‮ ‬واستقبلني‮ ‬هواء نقياٍ‮ ‬استنشقته و كنا أربعة‮: ‬أنا والطيور وحفيف وتمايل الأشجار ورجل شائب من الزمن الجميل‮ ‬ينحني‮ ‬للأرض احتراما‮.‬
‮ ‬وبعد ساعة من الزمن‮ …‬شاهدت امرأتان تلحق بنا من منطقة مجاورة تشد الرحال إلى سيد القرية لغرض التداوي‮ ‬من العلل‮ .‬
ولما بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية في‮ ‬كل أرجاء القرية ـ وجدت كل شيء مازال على حاله سوى بعض التغير الطفيف في‮ ‬جغرافية المكان نتيجة عوامل التعرية ومياه الأمطار والسيول‮ .‬
‮ ‬رأيت بعض المدرجات التي‮ ‬نحتتها أقدام أجدادنا‮ ‬‭,‬والتي‮ ‬تتعرض اليوم للسقوط نتيجة جحود وإهمال الجيل الحالي‮ ‬للمدرجات الزراعية ـ كنتيجة لفقدان العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض‮.‬
استغرقت في‮ ‬التفكير والتأمل الطويل والعميق والبعيد عن متاعب الحياة اليومية وأدرانها‮ ‬‭,‬وحاولت إعادة اكتشاف نفسي‮ …..‬مثلاٍ‮ ‬عن حياة الفتوة والمراهقة المْفعم بالمغامرة والأحلام والدْعابة‭,‬و أحاول أتذكر تفاصيل الحياة اليومية المليئة بضحكات الأطفال وعبث الرجال ونظرات شاردة من بنات عابرات تروض الجبل وحكايات جانبية على البئر ـ إلا أن ذلك‮ ‬يبدو محاولة بائسة للعودة إلى ذكريات الزمن السحيق‮.‬
كانت ترتفع روحي‮ ‬طبقات عالية من التصوف الديني‮ ‬ومن السمو والراحة والإستكانة والهدوء في‮ ‬محاولة خائبة لتلاقى روحي‮ ‬مع روح أجدادي‮.‬
‮ ‬فحياة القرية معناها‮… ‬الأمان والطمأنينة الذي‮ ‬لم أجده في‮ ‬قلب وعواصم المدن الرئيسية في‮ ‬بلدنا الحبيب ـ حيث كنا نظل في‮ ‬بطن الوادي‮ ‬حتى وقت متأخر من الليل ºوالنساء تتنقل من مكان إلى آخر دون أن‮ ‬يتعرض لهن أحد‮ ‬‭,‬و في‮ ‬غياب تام للمدرعات والمصفحات والمْسلحين المْلثمين‮!!‬
وجدتْ‮ ‬البيوت الطينية المهجورة لأجدادي‮ ‬الذين توفاهم الله‮ ‬‭,‬و قد أصبحت خرابة والبعض منها تساقطت أحجارها و أخشابهاـ ولم تعد صالحة للسكن وفي‮ ‬طريقها إلى أن‮ ‬يطويها النسيان‮ .‬
تفرست في‮ ‬الوجوه التي‮ ‬حفر فيها الزمن وآثار التاريخ والجغرافيا على وجوههم والملابس‮.‬
حاولت أن أتلمس الحياة البسيطة في‮ ‬القرية والتي‮ ‬تميل إلى التقشف والزهد‮.‬
وجدت بتول القرية‮ (‬على الكبير)وقد رسم الزمن علامات الهرم والتجاعيد على وجه‮ .‬
القيت عليه التحية ثم صافحته بحررة وأصابتني‮ ‬الحيرة من أين أبدأ‮!‬
لقد وجدت الرجل أصيب بالعمى ºولم‮ ‬يعد‮ ‬يعرفني‮ ‬إلا من الكلام وبعد أن بدأت اعرفه بنفسي‮.‬
سألت‮ : ‬أين‮ (‬عباس علي‮) ‬شاقي‮ ‬القرية¿ فتمكنت من اللقاء به في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬في‮ ‬جلسة مقيل‮.‬
كانت المفاجأة عندما وجدته في‮ ‬صحة جيدة إلا من بعض الحواس المفقودة كالسمع‮.‬
ظليت أرقب المكان بلهفة وشوق وأعود بذكرياتي‮ ‬إلى الوراء وإلى طفولتي‮ ‬و الناس الذين أعرفهم‮. ‬بحثت عن عجائز القرية اللاتي‮ ‬كنت أبتاع منهن‮ ‬البيض ـ ولكن لم‮ ‬يعد بالإمكان اللقاء بهم‮…. ‬كون الموت قد سبقني‮ ‬إليهم‮ .‬
زرت مقبرة السيدة هاجرºومقبرة الأطفال في‮ ‬القرية‮ …. ‬وأتذكر عندما كنت صغيراٍ‮ ‬شاركت في‮ ‬تشييع طفل وحينها سألت خالي‮ ‬رحمه الله ببراءة‮ : ‬ستدفنوني‮ ‬هنا‮!! ‬قال‮: ‬إن شاء الله في‮ ‬مقبرة الكبار‮!‬
عْدت من زيارة المقبرة‮ ….‬فقابلني‮ ‬صديقي‮ ‬طلال بابتسامة صفراء تخلو من العاطفة قائلاٍ‮:‬هل حفرت لك قبراٍ¿‮!‬
ودعت الأمكنة بأغلى وأرقى لغة‮ ‬يعبر بها الإنسان وهي‮ ‬الدموع‮… ‬التي‮ ‬سكبتها مدراراٍ‮ ‬على الأرض‮. ‬الأرض التي‮ ‬عجنت شخصيتي‮ ‬بجغرافيتها وتضاريسها وتاريخها والثقافة وما‮ ‬يلحق بها من عادات وتقاليد‮ .‬
هذه الشخصية التي‮ ‬تجمع بين قساوة الجغرافيا والتناغم بين الذات العميقة المْتطلعة والمنبثق عنها وجداني‮ ‬الذي‮ ‬يتبلور كل لحظة‮.‬

فضاء مليء بالدهشة والتساؤل
لم أتمكن لضيق الرحلة من زيارة محمية‮ (‬القْرير‮) ‬الطبيعية وهي‮ ‬عبارة عن أراض طينية من أملاك جدي‮(‬أبو والدتي‮) ‬وأبناء عمة‮ ‬ويوجد بها أشجار كثيفة من النخيل والقرض و العسق ونباتات متنوعةº والقرود التي‮ ‬تتراقص على رؤوس الجبال‮ ‬‭,‬وكذا أنواع مختلفة من الطيور متعددة الألوان‮.‬
º وقرية‮ (‬هبي‮) ‬التي‮ ‬لي‮ ‬فيها بعض ذكريات الطفولة والصداقات الجميلة‮.‬
كذلك قرية(الأوúهر‮) ‬وقرية‮( ‬دسن)هاتان المنطقتان تتميزان بكثرة الأفلاج الطبيعية وأحواض وبرك السباحة ـ حيث بإمكانك ممارسة هواية السباحة في‮ ‬موسم الأمطار ولمدة تمتد إلى ستة أشهرºو عوضا عن رؤيتك لشلال طبيعي‮ ‬في‮ ‬نهاية قرية‮ (‬دسن‮) ‬ارتفاعه أكثر من مائتي‮ ‬متر تقريباٍ‮ ‬وتنتهي‮ ‬مياهه لسقيا الحقول الزراعية المجاورة‮.‬
‮ ‬كذلك لم أزر منطقة البارد في‮ ‬قرية‮ (‬صومر الأعلى‮) ‬رغم الدعوة التي‮ ‬تلقيتها من أحد أصدقائي‮ ‬إلا أنني‮ ‬تذوقت و ريقات قات البارد عن طريق بائع متجول‮.‬
عدت لتناول الصبوح بعد جولة قصيرة كانت شاقة ومضنية على النفس وفضاء مليء بالتساؤل والدهشة‮ !!‬
كنت كل ما أمر بجوار بيت‮ ‬يكمني‮ ‬أهلْها الطيبون ويدعونني‮ ‬لتناول وجبة الإفطار فأرد عليهم بالاعتذارـ إلا من خالتي‮ ‬التي‮ ‬أكرمتني‮ ‬بوجبة إفطار كانت عبارة عن قطعة خبز جاف مع حليب الأبقار والأغنام ـ حيث مازالت المصادر الحيوانية والنباتية هي‮ ‬المصدر الرئيسي‮ ‬للغذاء و في‮ ‬منافسه محمومة مع منتجات مجموعة هائل سعيد أنعم‮!‬
اكتشفت أن بعض البيوت ودعت مواقد النار من الأحطاب واستبدلتها باسطوانات الغاز وهناك فرق طبعاٍ‮ ‬بين الطعام المطهي‮ ‬بالحطب والرائحة الطيبة التي‮ ‬تملأ جو المكان والطهي‮ ‬بالغاز‮.‬
وفي‮ ‬تمام الحادية عشرة قبل منتصف اليوم كان بائع القات‮ ‬يلوح لنا من تحت ظل شجرة نخيل موجودة هناك في‮ ‬قعر الوادي‮ ‬‭,‬وكوننا عدانية(مصطلح‮ ‬يطلق على كل من أتى من المدينة وخصوصا من مدينة عدن‮) ‬وميسوري‮ ‬الحال‮.‬
توجهنا بعدها باحثين عن الوالد‮/ ‬أحمدالدناني‮ ‬هذا الرجل وما‮ ‬يحمله من الحكمة والفلسفة والحب والقارئ النهم لحكم وأمثال وحكايات الأقدمين وعلى مر عصور وتاريخ الإسلام السالفة ـ وإذا سافرت إلى القرية ولم تتمكن بالجلوس معه كأنك لم تسافر‮.‬
وجدناه فرحب بنا وقدم لنا الشاي‮ ‬وقارورة حليب ـ وهذا شأن أهل القرية‮ ‬يجودون لضيوفهم بالحليب والعسل والسمن والبيض وهو أغلى ما‮ ‬يملكونه‮.‬
جلسنا على ظل شجرة معمرة تدعى عندنا‮ (‬الإثúابي‮)‬وهي‮ ‬شجرة تمتد بظلالها إلى مساحة كبيرة من الأرض‮.‬
‮ ‬تحدثنا عن بعض الأمور الحياتية وكان الوقت‮ ‬يقترب من منتصف الظهيرة ولما حل وقت الغداء ودعناه‭,‬رغم إلحاحه علينا بالغداء عنده‮ ….‬على أمل اللقاء في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬والحديث بشكل مطول عن كافة جوانب الحياة وذكريات الأيام الخالية‮.‬

إثارة المشكلات السياسية
في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬التقيناه تحت ظل شجرة معمرة(الإثابي‮) ‬وهي‮ ‬شجرة عملاقة دهرية و ورافة الظلال وأكبر من التي‮ ‬جلسنا تحتها اليوم الأول‮.. ‬اعتاد الناس المقيل ومضغ‮ ‬وتخزينه القات تحتها منذْ‮ ‬عقود من الزمن‮. ‬
بدأنا كعادة اليمنيين في‮ ‬المقايل بالحديث وإثارة المشكلات السياسية‮ ‬وما‮ ‬يواجه اليمن من تحديات أمنية وسياسية واقتصادية وكيفية الخروج من الوضع القائم¿‮!!‬
‮ ‬وهل هناك انفراج حقيقي‮ ‬للوضع السياسي‮ …. ‬لكي‮ ‬نتفرغ‮ ‬لبناء اليمن الجديد ¿!وتطرقنا حينها إلى موضوع الانتخابات المصرية وكانت النتائج لم تحسم بعد لأحد المْرشحين‮.‬
تحدثنا عن تجربة أستاذ‮/ ‬الرياضيات سيف سعيد مع الكتاب الثلاثي‮ ‬و محاولته لجمع الإنس والجن معاٍ‮ ‬ودون عناءـ إلا انه أصيب بلوثة عقلية قبل أن‮ ‬يتمكن من ذلك‮ !‬وما‮ ‬يتذكره من هذه التجربة هي‮ ‬عبارة عن جملة تقول‮: ‬اكتب‮ ‬يا أستاذ سيف ما‮ ‬يْملي‮ ‬عليك‮ ….‬الجان مرجان‮!!‬
‮ ‬بعدها انحرف بنا الحديث عن القرية وأحوالها ونوبات الجفاف التي‮ ‬ضربت المنطقة‮ ‬والمعاناة من نقص المياه وشحة الأمطار التي‮ ‬لم تتساقط منذْ‮ ‬أكثر من عام ونصف‮ ‬وما خلفته من آثار كارثية على الإنسان والحيوان وكان هذا هو الهم الأساسي‮ ‬لسكان القرية‮.‬
أصابني‮ ‬الألم عندما رأيت بعض الماعز وهي‮ ‬تمْد لسانها الصغيرة بحثا عن العشب التائه فلا تجده ºوكذا لم أعد أرى وأسمع زقزقة بعض الطيور التي‮ ‬أعْتدت على سماعها‮ …‬قبل سنوات بسب هذه الظروف المناخية السيئة و الاصطياد العشوائي‮ ‬لها‮.‬
فمصدر رزق سكان القرية الوحيد‮ ‬يعتمد على الزراعة والرعي‮ ‬وتربية النحل وبيع التمور‮.. ‬وكلاهما‮ ‬يعتمد على المطر‮…‬وزاد المعاناة سوءاٍ‮ ‬هو‮ ‬غياب دور الجهات الحكومية و التقصير في‮ ‬متابعة تنفيذ الحواجز المائية والسدود التي‮ ‬وعدت بها سابقاٍ‮ ‬ـ وبرغم الزيارات المتكررة إلى القرية من قبل مسئولين في‮ ‬مكتب الزراعة ـ إلا أن الوضع الحالي‮ ‬مازال على حالة ولم‮ ‬ينفذ شيء منها‮.‬
تألمت لمنظر الأراضي‮ ‬الزراعية الطينية الواسعة التي‮ ‬طمرتها السيول قبل عشرة أعوام وكانت تزين الوادي‮ ‬ببساط من الخضرة على مدى العام‮.‬
ولما سألت ماذا فعلت السلطة المحلية بهذا الخصوص¿‮!! ‬قيل لي‮: ‬أرسلت لجان قامت بتصوير آثار الكارثة‮ ‬‭,‬وما خلفته السيول‮..‬ولم تعد بجواب حتى اليوم و بعد أن أخذت بدل السفر‮!!‬
وبالتالي‮ ‬بقاء الوضع كما هو دون وضع حلول ومعالجات وإعادة الأرض إلى أهلها ـ‮ ‬يمثل خسارة فادحة للأرض والإنسان‮.‬
أخبرني‮ ‬الوالد‮/ ‬أحمدالدناني‮ ‬أن هذه الأرض بدأت تتعرض للتجريف بعد كل سيول جديدة على المنطقةـ مما‮ ‬يعنى إذا لم تتدارك السلطة المحلية هذا الأمر‮ .. ‬فإن الأراضي‮ ‬الزراعية ستفقد إمكانياتها بالعطاء مرة أخرى ـ وهذا الأمر إن حدث معناه زيادة حالات الفقرº والتي‮ ‬تعتمد على العمل في‮ ‬الزراعة ºو بالتالي‮ ‬ضياع أرض الأجداد التي‮ ‬ورثناها كابراٍ‮ ‬عن كابر‮.‬

حالات من البؤس والفقر
تحدثنا عن زيادة حالات وهامش الفقر والبؤس الذي‮ ‬بدأ‮ ‬يزحف على الأسر التي‮ ‬كانت ميسورة الحال‮. ‬
ساعد ذلك‮ ‬غياب البرامج التنموية للتخفيف من الفقر سواء للمنظمات الإنسانية الدولية أو الحكومية أو‮ ‬غير الحكومية ـ والتي‮ ‬كانت ستسهم بشكل ايجابي‮ ‬في‮ ‬تعليم النساء مهن وحرف‮ ‬يدوية تساعد في‮ ‬زيادة دخل الأسرة ºوكذا‮ ‬غياب صناديق الإقراض والتمويل الأصغر لدعم المشاريع الصغيرة‮.‬
يجدر الملاحظة‮ ‬غياب أي‮ ‬معهد تقني‮ ‬أو مهني‮ ‬رغم تخرج عدد كبير من طلبة الثانوية العامة ـ ولأكثر من ألف طالب سنويا‮ ….‬والذين إما لا‮ ‬يستطيعون إكمال تعليمهم الجامعي‮ ‬ويلتحقون في‮ ‬المهن العسكرية كأقصر الطرق ـ أو‮ ‬يلتحقون في‮ ‬بيوت أهليهم في‮ ‬المدينة لمتابعة التعليم الجامعي‮.‬
حدثني‮ ‬الوالد/أحمد الدناني‮: ‬أن هناك قصوراٍ‮ ‬في‮ ‬المسح الاجتماعي‮ ‬للحالات الفقيرة من قبل مكتب صندوق الرعاية الاجتماعية في‮ ‬المحافظة‮ ‬والذي‮ ‬يغلب عليه المسح الحزبي‮ ‬ـ حسب قوله ـ مما‮ ‬يْحرم الكثير من الأسر والحالات المستحقة‮.‬
انتقد أيضا والكلام للدناني‮ : ‬طريقة وأسلوب توزيع مساعدة مجموعة هائل سعيد انعم رحمه اللهº و من قبل اللجان المرسلة إلى المنطقة ــ حيث تختار اللجنة أعلى بقعة مرتفعة‮! ‬ثم تنادي‮ ‬على العجائز للصعود إلى أعلى الجبل لاستلام المساعدة وقال‮: ‬البعض منهن‮ ‬تصل واللجنة قد‮ ‬غادرت والبعض تعمل إلى نصف الطريق وتلتفت إلى مشقة المكان‮…. ‬فتقفل راجعة دون الوصول إلى الكشوفات والبعض تنظر من أسفل الجبل إلى أعلى قائلة‮:( ‬الله لا دخل هذا الرزق‮) ‬فتعود اللجنة منتشية بالكشوفات والأموال كوفر متحقق‮ !!‬
وللإنصاف فلقد ساهمت جمعية الإصلاح الاجتماعية الخيرية‮ ‬وجمعية الصالح الخيرية في‮ ‬التخفيف من آثار الفقر‮ ‬وبالرغم من شكاوى بعض الأهالي‮ ‬من تسييس بعض الحالات التي‮ ‬تستهدفها وتركها لأسر أكثر استحقاقا لهذه المعونة‮.‬
كل هذه الظروف البيئية والمعيشية الصعبة‮ ..‬أدت إلى هجرة بعض الأسر إلى المدينة وفك الارتباط مع الأرض التي‮ ‬لم تعد تثمر شيئاٍ‮.‬

الوداع الأخير‮!‬
وفي‮ ‬معرض زيارتي‮… ‬التقيت بالأستاذ‮/ ‬أحمد محمد صالح ـ مدير مشروع المياه‮ ‬‭,‬و كان مشغول جداٍ‮ ‬و تأسف لعدم قدرته على الجلوس معنا ـ نتيجة لانشغالاته الكبيرة بأعمال المشروع وفي‮ ‬دقائق معدودة شكا الأهالي‮ ‬وعدم سدادهم لما عليهم من فواتير‮ ‬وخصوصا النخبة‮ ‬و كذا بعض الصعوبات المالية والفنية التي‮ ‬يواجهها‮ ‬وعدم تقدير الأهالي‮ ‬نعمة هذا المشروع الذي‮ ‬لولاه لهجر الأهالي‮ ‬كلهم القرية‮ ‬‭,‬ولظروف الجفاف التي‮ ‬تضرب الزريقة ولمدة أكثر من عام ونصف‮.‬
ودعنا القرية والأهل والأصدقاء ومعنا أسرة صديقي‮…. ‬صعدنا على ظهر السيارة‮ (‬الشاص‮) ‬و لحق بنا افراد من أْسرنا‮ ‬يقومون بالوداع الأخير‮.‬
‮ ‬نظرت إليهم وإذا بالحزن‮ ‬يغشى وجوههم لهجرة أسرة جديدة وما ستخلفه من فراغ‮ ‬ولأكثر من سبعة أفراد‮. ‬
‮ ‬عاودت النظر إليهم كرة أخرى والدموع تنهمر مدراراٍ‮ ‬من أعينهم لتْسقي‮ ‬الأرض‮….. ‬عوضا عن قلة سقوط الأمطار والجفاف‮ .‬
‮ ‬بعدها رفعنا أيدينا إلى الله بالدعاء أن‮ ‬يغيث هذه القرية وأهلها بالغيث المدرار‮….‬اللهم آمين‮.‬

قد يعجبك ايضا