
د. يحيى بن يحيى المتوكل –
لا شك أن فشل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في اليمن خلال العقود الأخيرة يعود إلى أكثر من عامل وسبب لعل أبرزها أهداف الخطط الاقتصادية والاجتماعية التي بدأ إعدادها منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ومستوى تنفيذها ومحدودية الموارد والتمويل الازم لها وضعف القدرات والكوادر البشرية المعنية بتنفيذ مشاريعها ومراقبة ذلك التنفيذ وغيرها من المعيقات.
غير أن بعض الآراء التي يْعتد بها تؤكد أن الاستخفاف بالملف الاقتصادي والتساهل في تنفيذه والذي كان سمة المرحلة السابقة يعتبر عاملاٍ رئيسياٍ أدى إلى استمرار طغيان القرار السياسي على الأولويات الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي لم تتبلور جدية واهتمام كاف في تناول القضايا الاقتصادية وفي متابعة الأداء الاقتصادي وإن كان يظهر بين حين وآخر تفاعل أو ردود أفعال رسمية تحاول أن تعكس اهتماماٍ لحظياٍ وغير حقيقي بما يحدث على الساحة الاقتصادية كتغيرات سعر الصرف على سبيل المثال. لذلك كانت المحصلة أننا وبعد عقود من الزمن ما زلنا أمام اقتصاد وطني هش يعتمد على موارد ريعية غير مضمونة ويفتقد لأنشطة إنتاجية حقيقية مما جعله عرضة للتقلبات والأزمات الداخلية والخارجية إذ لا تمر علينا خمس سنوات متصلة دون أن يهتز الاقتصاد الوطني لسبب أو آخر.
لقد أضحت السياسة في الدول الناضجة – على خلاف الدول المتخلفة – واعية تمام الوعي بأن صلاح الأوضاع الاقتصادية واستقرار معيشة المواطن هي الوسيلة الأقرب للاستقرار السياسي والوصول إلى الحكم بطرق مشروعة وسلمية وأن تلبية المتطلبات والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للشعوب هي الفرس والميدان الذي تتسابق فيه الأحزاب السياسية لضمان أغلبية برلمانية وتشكيل الحكومة. ولقد سعدت جداٍ عندما سمعت كلمة الأخ رئيس الجمهورية عبدربه هادي منصور في تهنئته للشعب اليمني بقدوم الشهر الكريم حين استشعر أهمية القرار الاقتصادي واعتبر أن القرار السياسي يجب أن يأتي ملبياٍ له وليس العكس. لذلك وإن أصبح الأخ الرئيس يردد فحوى هذه المقولة حيث اعتبر أن جل مشاكل البلاد والتحديات هي اقتصادية بالدرجة الأولى فإننا نحتاج إلى ترجمة تلك الآراء والأقوال إلى أفعال على أرض الواقع وعدم الاكتفاء بدعم مؤتمر المانحين فلنا تجارب سابقة في هذا الجانب. إننا بحاجة إلى هيكلة الاقتصاد الوطني باتجاه القطاعات الواعدة والتي تحتاج بادئ ذي بدء إلى جهود الدولة وتوفير عوامل إنطلاقها من بنى تحتية وبيئة مواتية تشمل تسهيلات وأنظمة محفزة يستغرق توفيرها عدد من السنين إلا أنه لا بد أن نبدأ فوراٍ ودون تأخير والذي لا يبدو أن الحكومة الحالية – شأنها شأن من سبقها – تستشعر الأهمية القصوى لذلك. بل أسوأ من ذلك توحي لنا هذه الحكومة أنها تحتاج ان تبدأ من الصفر متغاضية عن الاستراتيجيات والخطط والبرامج التي أعدت في السابق ولتبدأ في إعداد رؤى واستراتيجيات لن تختلف كثيراٍ عما هو موجود حالياٍ. صحيحَ أن هناك حاجة ماسة لمراجعة وتقييم كافة الاستراتيجيات والسياسات في ضوء التطورات والأحداث المحلية والإقليمية والدولية التي مرت على البلاد وخاصة في السنين الخمس الأخيرة إلا أن ذلك لا ينبغي أن يبرر الركون الكلي لخبرات دولية فتجاربنا السابقة أثبتت أن الخبرات الدولية وإن كانت مطلوبة في بعض الحالات إلا أنها ليست العامل الحاسم لنجاح جهود التنمية التي تتطلب أولاٍ وأخيراٍ توظيفاٍ مناسباٍ للخبرات الوطنية باعتبارها المساهم الأساس في إعداد الخطط والبرامج ومتابعة تنفيذها.
إن الاعتقاد بأن خبيراٍ ما أو شخصية كبيرة بحجم مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق يمكن أن تعالج مشاكلنا هو اعتقادَ خاطئ فهو وبخبرته الطويلة التي نجح في تحقيق نقلة نوعية للاقتصد الماليزي إلا أنها بنت زمانها ومكانها وتختلف كلية عن يمننا اليوم وهذه مسألة في غاية الأهمية. يمكن للسيد مهاتير وفريق عمله أن يقدم النصح والاستشارة لكنه لا يستطيع أن يْعد أطر السياسات والبرامج نيابة عن الجهات اليمنية المختصة وإن قام بإعدادها فهو خطئ فادح طالما تجنبت المنظمات الدولية التي ننتقد تدخلها الوقوع فيه.
إن المسألة الأهم – مرة أخرى – أن تكون القرارات الاقتصادية مرتكزة على جدواها وليس على نطاقها وأثرها السياسي والذي يجب أن يتحول إلى أساس وتوجه عام لكافة الأحزاب السياسية وجميع العاملين في أجهزة الدولة بدءاٍ بالقيادات السياسية وانتهاءاٍ بأصغر موظف. وإذا تحقق ذلك فلن يجرؤ أحدَ كبيرَ أو صغيرَ أن يتخذ قرارات شعبوية بجرة قلم أو انتهاز موقف سياسي مثل توظيف 60 ألف خريج وإضافتهم إلى جهاز إداري متخم أصلاٍ ويعاني من تسيب وتغيب أكثر من نصف منتسبيه مما يضيف أعباءٍ واختلالات هيكلية في الموازنة ومزيد من إضعاف أداء الجهاز الإداري للدولة فمن يتحمل مسئولية ذلك¿ ولا يمكن كذلك اتخاذ قرارات تعارض المصلحة العامة مثل تصدير الغاز المسال إلى الخارج في حين أن بلادنا في أمس الحاجة إليه للتوسع في توليد الطاقة الكهربائية الرخيصة بدلاٍ من استمرار تحمل فواتير الديزل المثقلة أو سداد تكاليف مضاعفة للطاقة الكهربائية المستأجرة التي كان يمكن لتلك المبالغ إنشاء محطات طاقة تولد أضعافاٍ مضاعفة من الطاقة. وأخيراٍ لايمكن بقرار اقتصادي مدروس أن يستمر تخصيص حوالي ثلث الموازنة العامة لدعم المشتقات النفطية التي يستفيد منها الفقراء بحوالي 20% مقابل استفادة الميسورين والأثرياء بـ80% فأين الاقتصاد من هذه السياسات والقرارات¿ وهل آن الأوان حقاٍ أن تكون القرارات المتعلقة بمواردنا ومعيشتنا اقتصادية وليس سياسية أو نفعية¿ هذا ما نحتاج أن نؤكد عليه ونضمن الاتفاق عليه في الحوار الوطني القادم وكذلك النص عليه في دستورنا الجديد الذي يجب أن يتجاوز فلسفة اقتصاد السوق الحر إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يوازن ويحافظ على المبادرات الفردية لاقتصاد السوق من ناحية ويؤكد على المسئوليات والتكافل الاجتماعي للفاعلين في الاقتصاد من ناحية أخرى ضماناٍ للعدالة الاجتماعية وهو حديثنا في مقالة قادمة بمشيئة الله.