الأقدار وفق المشيئة لا الهمم
هائل سعيد الصرمي –
إن الإرادة العليا هي التي تدير دفِةِ هذا الوجود كما تشاء وكيفما تشاء وهي التي نظمت سننه وقوانينه وجعلت لكل شيء قدرا فإرادة البشر وهممْ لا تخلق هذه الأقدار وإن جرت سنن في ذلك فمن سننه أن جعل الإرادات , والهمم مع الأخذ بالأسباب تجلب الأقدار, ولكن ليس ذلك على إطلاقه فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار فهي بمشيئة الله فلو سبقت الهمم والإرادات وجاءت الأقدار موافقة لها فلا يعني هذا أنها باعثة عليها حتماٍ ولا جالبة لها طراٍ أو خارقة لأسوارها بعيدا عن المشيئة إنما هي المشيئة التي تهيئ الأسباب والمسببات لما يكون.فقد تتبع الأقدارْ الهممِ والإرادات بمشيئة الله وقد لا تتبعها º فالمشيئة المطلقة لله وحده وليس للإرادات ولا للقوانين .. ولعلِ هذا بعض مما توحي به حكمة ابن عطاء الله الحكمة الثالثة التي تقول : « سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار »
لعل الحكمة تريد أن تقرر أحدِ أمرين أو كليهما معاٍ : –
_ الأمر الأول هو ما يتعلق بالرزق الدنيوي المحض فإن الإنسان مهما بلغ ذكاؤه في الأخذ بالأسباب لن يأخذ إلا ما كتب له ولو رزق الناس على قدر عقولهم ما أدرك العصفور شيئاٍ مع النسر .
إنها تريد من السالك التأدب مع الله فمهما بلغت همته في العمل لن تنفعه إلا إذا شاء الله أن ينفعه بها فلو اعتمد على همته فحسب وجهده وطاقته وقدراته لما نفعه شيئا ولكان مغروراٍ .(يمحو الله ما يشاء ويثبت) الرعد ( 39) . فالأقدار كلها بيد الله. روى الطبراني في الأوساط حديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال (كل شيء بقضاء حتى العجز والكسل) (6/147) ـ فلا محو ولا إثبات إلا ببركة الذل والانكسار وشهود نعمة المنعم .ولا يعني هذا ترك الهمة فهي من أصول الحياة.
الإرادة تستجلب المراد والهمة العالية مطلب شرعي يستحق صاحبها الأجر من الله والثواب على همته وإن لم تتحقق والغالب أن الله يحقق لأصحاب الهمم والطموحات إرادتهم º لأن الأقدار تتبع الإرادات في الغالب إذا شاء الله على اعتبار قول البعض: إن الإرادة نوع من أنواع الدعاء لذلك كانت الهمة العالية والطموح المرتفع مطلب شرعه الله وحث عليه وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن قال «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى» والحديث دعوة صريحة لعلو الهمة في طلب الجنة ناهيك عن غيرها من المطالب . وعلو الهمة مطلب تستحسنه الفطرة وتؤيده طبائع الناس ورغباتهم .
« إرادة الشيء باعثة لحصوله» فهذه قاعدة صحيحة لقوله تعالى : ]ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ الإسراء (19) وقوله : ] إن يريدا إصلاحاٍ يوفق الله بينهما [ سورة النساء (35).
وهذه القاعدة ليست على إطلاقها. فعلو الهمة والإرادة لا تخرق أسوار الأقدار º لأن الأقدار وفق المشيئة لا وفق الهمم , فالإرادة المطلقة هي إرادة الله يفعل ما يشاء هو لا ما يشاؤه العبد , لذلك قيل لبعضهم كيف عرفت ربك( قال بنقض العزائم),وحتى الأنبياء والمرسلين – على جلال قدرهم ومكانتهم عند الله – لم تسرú الأقدار حسب أمنياتهم وطموحاتهم ورغباتهم كلها ولكن ساعة وساعة لتبقى مشيئة الله مطلقة .
فلقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم العير وأراد الله النفير . وأراد عْمرة وشاء الله صْلحاٍ وفتحاٍ مبيناٍ .وتودون غير ذات الشوكة تكون . وهكذا الهمم لا تكسر أسوار الأقدار , و قد يقول قائل : إن الله يجيب من رجاه ولا يرد من دعاه فمن ذا الذي رجاه فخاب رجاؤه ومن ذا الذي سأله فلم يعطه سؤله. إن الله يحقق للعبد ما يرجوه ويسألهْ إذا كان وفق شرعه ولا يخيب من رجاه ولا من سأله ولكن وفق إرادته سبحانه .
والإرادة تستجلب المراد
هذا موسى يطلب من قومه الدخول إلى أرض المقدس º تنفيذاٍ لأمر الله عز وجل فخذله قومه وعصوه قال الله على لسانهم : ] فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهْنا قاعدون [ سورة المائدة (24) فعاقبهم الله بالتيه أربعين عاماٍ وموسى بين أظهرهم لم يفقد أمله ورجاءه بدخولهم إلى بيت المقدس ثم قْدر للجيل الذي نشأ خلال – فترة التيه -بعد أربعين عاماٍ بدخول بيت المقدس على يد يشوع وقد مات موسى ولم يشهد ذلك فـتحققت إرادة موسى في الوقت الذي أراده الله وليس كما أراد موسى أي لم تتحقق في الزمن الذي أراده موسى.
وهذا إبراهيم يدعو الله بأن يبعث رسولاٍ من أمته º ليعلمهم الحكمة فاستجاب الله دعوته بعد قرون وبعث رسولنا محمداٍ صلى الله عليه وآله وسلم بعد قرابة عشرين قرناٍ من دعوة إبراهيم. ومن هنا نعلم أن «سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار »
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
هممْ الكبار تعانق الأفلاكـِـــا
والروحْ تْشرقْ لو تِرى الأملاكِـِا
«قلب المحب» إلى السعادة تائق
يِهوى الخلاص ليوقظْ الإدراكِــا
ومضْ الطموح على البسيطة عْمúرْهْ
عْمرْ الزمان وقد يذوب هناكـــا