“نعيش معا” رواية تستنطق العالمية

أهداني الصديق الأديب ناصر محمد الحنش نسخة من روايته الأولى “نعيش… معاٍ” الصادرة مطلع عام 2015م قام بطباعتها في إحدى مطابع صنعاء على نفقته.
الرواية تتكون من 215 صفحة قطع صغير.. وهي العمل الثاني للكاتب بعد مجموعته القصصية “منكم من… أنا”

وسأتجاوز العنوان.. وما جاء في الغلاف.. وكذلك العتبات الداخلية من شكر وإهداء رغم أهمية الحديث حولها.. وأصدقكم القول أني بدأت بقراءة الرواية مجاملة للصداقة التي بيننا.. لأكتشف بعد عدة صفحات بأني أمام رواية ناضجة ومكتملة الأركان فنيا وموضوعيا..  بل أضافت لي الكثير ككاتب.. وأهمس للقراء أنها رواية تستحق أن تقرأ.. وأجزم  أن هذه الرواية ضمن أجمل الروايات اليمنية التي قرأت.. بل وتتجاوز  كثيراٍ من رواياتنا. لا أقول ذلك مجاملة.. لكنها الحقيقة التي أدعو  بهذه المناسبة متذوقي الأدب إلى قراءتها والحكم على ذائقتي.
الحنش صاحب تجربة حياتية ثرية.. هذا الثراء انعكس على كتاباته.. التي يذكرني بثراء الروائي المغربي محمد شكري صاحب رائعة الخبز الحافي ذائعة الصيت.. وكذلك الروائي السوري حنا مينا صاحب تجربة حياتية غنية وضفها في أدبه. إضافة إلى أن الحنش يمتلك القدرة على  الكتابة الساخرة من الحياة ومما حوله.. ولذلك  قدم لنا رواية بنكهة ساخرة محببة .. وبهذا نستطيع تصنيف “نعيش..معاٍ” ضمن السرد الساخر. وهو فن لا يجيده إلا القلة من الكتاب. وأما في الرواية فأجزم بأنه الوحيد من كتاب اليمن الذي يكتب بهذا الأسلوب إذا استثنينا رواية الرازحي  اليتيمة التي أثير حولها لغط.. ولا أقصد  ما يقدمه الحنش بالسخرية الباسمة فحسب بل أيضا والجادة التي تدفع بالقارئ إلى التأمل.
ميزة أخرى يمتاز بها الحنش.. بداية كتابة الأدب “القصة والرواية”  بعد  تجاوزه السبعين. كتب نصه القصصي الأول..  ليقدم لنا أعمالا غاية في الإدهاش.
“نعيش…معاٍ” رواية مختلفة.. بأسماء شخصياتها: جادي.. كريمو.. مريم.. زيمي.. هيروت.. هودن.. مزن.. يشي.. زائدة . وإذا كانت الأسماء تدل على تنوع الأعراق في شخصيات هذا العمل وبالتالي تنوع الثقافات وأساليب الحياة.  ما قدم لنا رواية نوعية .
 وكذلك المكان هو الآخر مختلف. فحين أراد الكاتب كتابة روايته الأولى قدم لنا رواية مختلفة في كل شيء عدى الحس الإنساني والنفس الساخر. فالمكان الذي تدور فيه أحداث الرواية مدينة بيروت وضواحيها.. وحين نقول ضواحي المدينة نعني بتلك المدن والمنتجعات والقرى المتناثرة على الشواطئ أو على سفوح ومرتفعات الجبال خارج بيروت.
إذا فمسرح أحداث الرواية خارج اليمن لبنان.. وتلك الشخصيات  هي الأخرى لا تنتمي إلى جنسية بعينها.. فالسارد أو الشخصية الرئيسة يمني. وبقية الشخصيات من الجزائر وأثيوبيا وجزر القْمر..  والمغرب .. وفرنسا.. وكذلك من لبنان وجنسيات أخرى .. تجمعهم مدينة منفتحة ثقافيا “بيروت”.. وشخصيات مختلفة الأديان والأعراق.. يعمل معظمهم  في فرع شركة تتبع الشركة الأم في شرق آسيا اليابان.
هذا المزيج الإنساني بين المكان والشخصيات وبقية الخصائص التي قدمها هذ ا العمل .. قدمت رواية باتعة.  إضافة إلى الجانب الفني الذي أجاد الكاتب أن يقدمه روايته به ..  قالب روائي مشوق .. وبحبكات مدهشة .. يجعل منها رواية متفردة ومتطورة.. وهذا يقودنا إلى التمني أن  تأخذ هذه الرواية حقها من الترجمة والنشر خارج اليمن بأكثر من لغة.
قد يقول قائل أن تنشر أولا عربيا.. ومحليا وأوافقه الرأي لكن لا يوجد في بلدي أبسط وسائط النشر والتوزيع..  وهاهو الكاتب يطبع عدداٍ من النسخ على حسابه لعدم وجود دار نشر أو توجه للوزارة المعنية للإهتمام بالكتاب .. وبدوري التزم هنا بأن نعمل على إصدار هذه الرواية المتميزة على الأقل عربيا. “بعد مراجعتها نحويا”
 أمر آخر .. محور الرواية .. أو الموضوع الذي تعالجه.. هو فيروس الإيدز والحرية الجنسية. إضافة إلى محاور عدة تناولتها. مثل الحرية الشخصية وعلاقتها بالدين.. اختلاف مفهوم الحرية الشخصية من مجتمع إلى آخر.. تلك العلاقات الإنسانية  من مجتمع إلى آخر.. أوجه الاستغلال وتباينه من فرد إلى آخر.
بمعنى أن الكاتب يصطحب القارئ إلى حيوات مختلفة عما هي في الرواية التقليدية.. يصطحبه إلى علاقات لم يعشها.. و مشاعر وخصوصية يرها مجتمعه محرمة.. وإلى  مجتمع يكرس حرية الفرد ويصون حقوقه بالقوانين التي  تحكم الجميع. وفوق تلك المسحة الإنسانية التي أراد أن يقدمها في عمله.. قدم لنا ما يجب أن نعيشه في حياتنا وتعاملنا مع محيطنا.. فبرغم التباين بين تلك الشخصيات حول بعض القيم الإنسانية .. ورغم جنوح بعضها إلى ممارسة ما هو غير قانوني ولا أخلاقي.. إلا أن الكاتب استطاع أن يقرب تلك الممارسات والعلاقات الإنسانية إلى درجة  هضمها وقبولها. بل وأن يتعاطف مع شخصيات تقوم بتلك التجاوزات التي لا تضر أحداٍ وتعتبر ضمن حدود الحرية الشخصية.. فلا قتل ولا اغتصاب.. ولا سلب أو إكراه أو استغلال …الخ تلك الجرائم التي تعيشها مجتمعاتنا.
ناصر الحنش.. حكاء بامتياز.. ولذلك قدم لنا هذا العمل المختلف بأسلوب مدهش.. عن وعي ودراية بجنس السرد وخاصة الرواية وذلك دليل اطلاعه الدائم بمنجز الرواية المعاصرة. فهو قارئ نهم .. وهكذا زاوج بين قراءتها وبين ثراء حياته.
وأمر آخر لفت انتباهي  في هذا العمل قدرة الكاتب على الكتابة السردية الجديدة التي تعتمد على نسج حكايات متداخلة تشابه ضربات الرسام   بفرشاة الألوان على لوحة تشكيلية..  وكذلك سلاسة الأحداث وترابط الأحداث المتلاحقة والتي تظهر لنا امتلاك الكاتب على ألاعيب حبك أكثر من حكاية لشخصيات متعددة تتجمع خيوطها في النهاية لتقدم عملاٍ متماسكاٍ جامعاٍ.
استخدم بعض الأمثلة اليمنية  في أكثر من موضع ومنها”قارب الخوف تأمن” ويقول الشجر والحجر”خلفي يهودي يامسلم تعال واقتله” وإن كنت لا أحبذ هذا المثل.
ونأتي إلى أمر فني آخر .. والذي تمثل في نمنمة الرواية بحكايات داخلية تزيد من جذب القارئ إلى متابعة القراءة مثل  ص47 “ثم قالت جدتي كان عشيقي أحد الجنود الايطاليين في اثيوبيا…” الى آخر تلك الحكاية .. ثم حكايات أخرى تتشرنق بداخل النص منها  حكاية بنت عمته ص 36 و 78و 145 وفيها برزت موهبة الكاتب في تطريز جسم الرواية أو متنها بحكايات شخصيات ثانوية تدعم الفكرة الرئيسة أو محاور تناول الرواية.. إضافة إلى نسج حكايات لشخصيات أخرى في أكثر من موضع مثل حكاية مزن ص66 وحكاية زائدة ص 75 حكاية زيمي ص130 وحكاية الرشيقة ص 129 وحكاية هيروت ص164. وتلك حكايات يمكن أن نقرأها كنصوص مستقلة.. في الوقت نفسه هي أجزاء أساسية من رواية متكاملة.
وتبقى قضية قد نختلف حولها وهي ما يثيره بعض النحاة حين ينشغلون بتصيد بعض الأخطاء النحوية ورفع أصواتهم وكأن الكاتب يكتب في النحو والصرف.. متجاهلين الحديث حول الفن السردي .. والجوانب الموضوعية للنص.. مركزين على: كان يجب نصب هذا أو كسر هذا أقول يستطيع الكثير تصحيح أي خطأ.. لكن لا يستطيع الجميع كتابة مثل رائعة الحنش سرديا “نعيش….معاٍ” وبدل النقد نعينه على تصحيح ذلك.
هي تحية لرواية ناضجة فنيا .. وتفرد موضوعي.. علينا أن نحتفي بها وندفع بالكاتب كي يقدم المزيد من الإبداع .. شكراٍ صديقي المبدع الكبير ناصر الحنش.. وأنتظر جديدك من الكتابة المماثلة إدهاشا .. والمزيد من النتاج الروائي الذي نتعلم منه كيف نكتب الرواية المختلفة¿

قد يعجبك ايضا