كثيرون همْ الشعراءْ الذين تغنوا بصنعاء وكتبوا فيها أحلى القصائد منذ قرون وليس عقود من الزمن سواء كانوا يمنيين أو غير يمنيين. لكن أنú يأتي عمل سردي يتناول العشق المحض لصنعاء فهذا ما لم يسبق إليه أحد قبل نادية الكوكباني في روايتها (صنعائي) الصادرة بطبعتها الأولى عن دار عبادي بصنعاء والثانية عن مجلة الرافد الإماراتية.
ونادية الكوكباني سبق لها أن أصدرت روايتين هما: حب ليس إلِا و عقيلات.. لكن يظل لرواية (صنعائي) مذاقها الخاص كونها تغلغلتú في أعماق المجتمع الصنعاني بعاداته وتقاليده التي نستطيع ليس القول فقط بل والجزم بأنها عادات وتقاليد سامية.
فضلاٍ عن عكسها لطبيعة المعمار الصنعاني وتشكيلات مدينة صنعاء القديمة من خلال وصف دقيق يشكل لوحة فنية بقالب أدبي.
وتظل الفكرة الأساس التي أرادتú الروائية معالجتها من خلال هذا النص السردي هي الأكثر إثارة وتأثيراٍ في نفس المتلقي وذلك حين تتطرق لموضوع شائك هربِ عنه وعن تناوله جْلْ المناضلين ومِن أرِخوا للثورة اليمنية 26سبتمبر وما تلاها من أحداث جسام حتى بداية العقد السبعيني من القرن العشرين المنصرم.
وهنا تتضح وبجلاء شجاعة الروائية وإلمامها الواسع بمختلف الجوانب المتعلقة بالثورة السبتمبرية وما تلاها من إخفاقات أثرت على مسارها وانحرفت بها بعيداٍ عن الطريق الذي رسمه لها مفجروها وأحرارها وشهداؤها المخلصون.
وقد أماطت اللثام بالتفصيل عن أحداث أغسطس الدامي عام 1968م وحاولت أن تنفذ إلى السبب الحقيقي لتلك الأحداث المأساوية التي تم تغليفها بغلاف المناطقية فيما كانت في جوهرها صراعاٍ بين القوى المدنية والتقدمية من جهة وبين القوى الرجعية والإقطاعية من جهة أخرى.
وقد بدا واضحاٍ إلمام الروائية بهذه الأحداث وما رافقها وما سبقها من خلال الغوص في بعض التفاصيل والتواريخ فضلاٍ عن رغبتها الشديدة في تسليط الضوء على حقبة زمنية مهمة وإنصاف شخصية وطنية نالت الكثير من الظلم وهو الشهيد عبدالرقيب عبدالوهاب بطل معركة حصار السبعين والذي أهدت الروائية هذا العمل الأدبي الفذ له.
ونستطيع القول أن رواية (صنعائي) نافذة يستطيع من خلالها المتلقي أنú ينفذ إلى أغوار المجتمع الصنعاني التقليدي بكل ما يحيطه من جمال وأْلفة ومحبة ونقاء فضلاٍ عن تثقيفه سياسياٍ وتاريخياٍ بفترة من أهم فترات اليمن المعاصر وهي التي تمتد من عام 1962م وحتى عام 2011م.
لقد أعطتنا الروائية صورة مْجملة عن ما تلى ثورة سبتمبر من انتكاسات وخيبات نالِ المناضلين منها الشيءْ الكثير ما دفع غالبيتهم لإيثار الصمت والتواري عن الأنظار إما بالنزوح للخارج أو البقاء رهن جدران البيوت.. ولعلِ ذلك ما أجادِ وصفه شعراٍ شاعر اليمن ورائيه الفذ عبدالله البردوني بقوله:
والأْباةْ الذين بالأمس ثاروا ** أيقظوا حولنا الذئابِ وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعبُ ** قعدوا قبلِ أنú يروا كيفِ قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن ** هل يْحسْون كيفِ ساءِ الختامْ¿!
الرواية تتحدث عن قصة فتاة يمنية عاشت طفولتها وحتى أكملت الجامعة في مصر مع أسرتها دون أن تعرف سبب وجودهم في مصر رغم أنِ لها وطن آخر اسمه اليمن.. وهذا الوطن له عاصمة اسمها صنعاء هي مسقط رأس البطلة (صبحية) وكانت تزورها كلما سنحت فرصة.. وقد كانت (صبحية) تجهل أنها ابنة أحد المناضلين اليمنيين الذين كان لهم شرف تفجير ثورة سبتمبر والدفاع عنها حيث لم يفتح لها أبوها طوال عمره حتى وفاته في القاهرة أي موضوع بهذا الخصوص وبعد أنú عادت بجثمان والدها لتواريه الثرى في صنعاء وفضلت الاستقرار في صنعاء وفتح مرسم لها في إحدى حارات صنعاء القديمة.. حينها تقع في حب (حميد) ضابط متقاعد مبكراٍ وأحد أبناء المناضلين.. لكنها لم تعرف ذلك إلا فيما بعد من خلال شخص اسمه (غمدان) من أبناء المناضلين المهضومين مثل والدها وبعد دعوة تلقتها من الرئاسة تعرف أنها ابنة مناضل كبير وتعود لأمها تسأل عن مِن هو أبوهاº فتعطيها أمها بعض مذكرات ورسالة مطولة كان قد كتبها لها أبوها وجعلها في خزانته الخاصة لتقرأها بعد مماته.
هنا فقط تتضح لـ(صبحية) خيوط عريضة لأسباب إيثار والدها النزوح بهم إلى مصر والاستقرار في القاهرة بعيداٍ عن وطنه الحبيب الذي ضحى لأجله بالكثير ولم يأخذ منه سوى النزر اليسير فيما المتربصون بالثورات وأدعياء النضال يعيشون في بحبوحة من العيش بعد أنú شكلوا طبقة تتحكم بمقاليد الحكم في اليمن وتستولي على كل شيء فيه وتستأثر لنفسها بجْل خيراته تاركةٍ الشعب يعيش في ضيقُ وكفاف.
وقد كانت الروائية دقيقة وهي تشرح ما آل إليه الوضع في صنعاء في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة بعد أنú استفحلِ أمرْ تلك الشلة التي تسيطر على الوطن وتنهب خيراته.
استطاعت نادية الكوكباني أن تجعل المتلقي يعيش معها المأساة بحذافيرها والمعاناة بكل تفاصيلها ناهيك عن أنها أوصلِت رسالتها السياسية التي حرصت على عكسها من خلال هذا العمل الأدبي بكل سهولة ويسر وبقالب أدبي بديع لا يْشعرك بأنك أمام حشوُ أو أشياء زائدة أو نشاز في جسد الرواية التي بدت متماسكة في بنائها رغم أن الروائية أدخلت فيها الكثير من الأحداث المتباعدة لكنها فعلت ذلك بحبكة روائية مْتقنة كانت كفيلة بنقل رسالتها دون تشويش وفي الوقت نفسه حافظت على المبنى الروائي من أي ضعفُ قد يعتوره نتيجة تلك الأحداث المتداخلة والممتزجة مع عشق بطلة الرواية لصنعاء بكل ما تحويه من جمالُ متعدد وفريد.
أسلوب نادية الكوكباني الروائي يجذب المتلقي من أول سطر لأنها تدخل في عمق السرد مباشرةٍ ولا تدع للانطباعات الذاتية مجالاٍ عند بوابة روايتها كما أنها لا تفسد السرد بكثرة التداعي الحر في المونولوجات الداخلية أو بالوصف الزائد الذي يعمد له البعض من الروائيين ليس إلِا لتضخيم حجم الرواية وهو ما يدفع المتلقي في الغالب لتجاوز تلك الصفحات دون قراءة لأنها لا تؤثر في صْلب الرواية ولا تخدش مسار الفكرة بل العكس قراءة ذلك الحشو يفسد متعة تسلسل الأحداث وتداعيها وتجعل الرواية تبدو مهلهلة ضعيفة.
وعموماٍ أستطيع أنú أجزم أنِ رواية (صنعائي) لنادية الكوكباني هي شاهد على حقبة زمنية مهمة في تاريخ اليمن المعاصر كما هي لوحة أدبية متكاملة لصنعاء القديمة والحبيبة بكل تفاصيل جمالها الذي نعشقه ونذوب فيه.. لقد غاصت الرواية في أدق تفاصيل المجتمع الصنعاني الذي استهواها وسكن روحها فاستحقت حينها أنú تْطلق عليها (صنعائي).