يناقش كتاب “بنية الثورات العلمية” البنيات الأساسية للثورات العلمية وكيفية تطورها وتقدم العلم عبرها فقد جمع بين أصول المعرفة العلمية من ثقافة وفلسفة وعلوم إنسانية واجتماعية وأيضاٍ من آداب وفنون وعلوم تطبيقية قيل عنه أنه أحد الكتب المائة الأكثر تأثيراٍ منذ الحرب العالمية الثانية وأنه معلم بارز في تاريخ الفكر الذي جذب الانتباه بصورة تعدت ميدانه المباشر.. وقد كتب بمزيج من العمق والوضوح ما جعل منه سلسلة متصلة من الأقوال المأثورة كما قيل عنه أنه أفضل شرح لعملية الاكتشاف العلمي وأنه على الرغم من عمقه يتوجه إلى عقول الفئات المختلفة وذوي الخلفيات المختلفة.
يبدأ الكتاب الذي ألف “توماس كون” الذي كان أستاذاٍ فخرياٍ للسانيات والفلسفة والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في 389 صفحة بمقدمة للمترجم الدكتور حيدر حاج إسماعيل أستاذ الفسلفة الغربية في جامعة بيروت العربية حيث يبين أن المؤلف قد رفض النظر إلى العلم وإبداعاته وتطوره من وجهة نظر فردية فيعتقد أن تاريخ العلم لا يمكن فهمه وشرحه إلا بفضل المتحدات العلمية وبراديغماتها.
وقد حاول “كون” مؤلف الكتاب وبعض الاختصاصيين وضع بعض الأسس وهي أن العلم لا يقوم ولا يتغير بواسطة فرد بحد ذاته بل بواسطة مجموعة من العلماء مشتركين بتقاليد وقواعد واحدة مستمدة من نظرة واحدة إلى العالم.
ويرى أيضاٍ توماس كون أن العلم وتطوره عبارة عن ثورات نوعية متلاحقة وكل ثورة لها نموذجها “البراديغم” الخاص المستمد من نظرة جديدة إلى العالم والمتجسد في الحقل المعرفي لمجموعة من العلماء والمهنيين.
دور التاريخ
يؤكد المؤلف أن النظر إلى التاريخ على أنه مخزن لأكثر من حكاية لحدث مثير أو لسلسلة حوادث حينها يمكنه أن ينتج لنا تحولاٍ حاسماٍ في صورة العلم التي تستحوذ علينا الآن وكانت تلك الصورة قد استمدت رئيسيا وحتى من قبل العلماء أنفسهم من درس الإنجازات العلمية التي تمت حيث إن هذه الإنجازات مسجلة في الأعمال الكلاسيكية ومؤخراٍ في الكتب المدرسية التي يتعلم منها كل جيل علمي جديد ممارسة اختصاصه المهني.
ويضيف المؤلف: غير أننا إذا افترضنا أن العلم هو منظومة من الوقائع والنظريات والمناهج مجمعة في الكتب الراهنة يصبح العلماء أولئك الأشخاص الساعين بجد سعياٍ ناجحاٍ أو مخفقاٍ للإسهام بعنصر أو بآخر في تلك المنظومة الخاصة ويصير التطور العلمي عملية أجزاء تضاف فردياٍ أو مجموعاٍ إلى المخزن الذي لا يتوقف نموه والذي يؤلف التقنية والمعرفة العلميتين.
مبيناٍ بالقول: “ومع ذلك فقد عانى نفر قليل من مؤرخي العلم صعوبات متزايدة في سبيل القيام بالوظائف التي يعينها لهم تصور التطور بفضل التراكم وقد اكتشفوا بوصفهم مسجلين لعملية إضافة الأجزاء أن تقدم البحث يجعل الإجابة عن مثل الأسئلة التالية أكثر عسراٍ وليس أكثر يسراٍ”.
واستعرض دور التاريخ في الثورات العملية وناقش نقاط التحولات الرئيسية في مجرى التطور العلمي المرتبط بأسماء بعض المكتشفين والمخترعين أمثال نيوتن واينشتاين وغيرهم كما تعرض الأحداث التاريخية ماهية الثورات العلمية.
طبيعة الثورات العلمية وضرورتها
للثورات العلمية أهمية كبيرة في التطور العلمي وهي تعتمد بشكل كبير على سلسلة الأحداث التطورية اللاتراكمية التي يحل فيها كلياٍ أو جزئياٍ “براديغم” جديد محل براديغم أقدم منه حيث يعني أن أمثلة وأنماطاٍ جديدة تحل محل غيرها من الأنماط والأمثلة السابقة.
ويضرب المؤلف مثلاٍ بالتأثر بالثورات العلمية على أنها لا تبدو ثورية إلا عند أولئك الذين تتأثر براديغماتهم بها أما بالنسبة إلى من هم خارج البراديغمات فيمكن أن تبدو وكأنها مراحل عادية في العملية التطويرية , ومثالاٍ ذلك أن الأشعة السينية قد يقبلها الفلكيون أنها إضافة جديدة إلى المعرفة بينما يعتبرها العلماء الذين يبحثون في نظرية الإشعاع أو في أنابيب الأشعة المهبطية ثورة وتغييراٍ في براديغماتهم وعلى أساس ذلك ينقسم المجتمع إلى فريقين متنافسين أحدهما يسعى إلى الدفاع عن منظومة المؤسسات القديمة والآخر يسعى إلى تأسيس مؤسسات جديدة.
ومن خلال تلك المحاولات يهدف المؤلف إلى إعطاء البرهان على أن الدرس التاريخي لتغير البراديغم ينكشف عن خصائص مماثلة تماماٍ في تطور العلوم , فالخيار بين البراديغمات المتنافسة مثله مثل الخيار بين المؤسسات السياسية المتنافسة.
تغيير النظرة إلى العالم
تختلف النظرة إلى العالم بعد أن تتغير البراديغمات لدى المجتمع فيؤكد المؤلف على أن العلماء الذين يقودهم براديغم جديد يتبنون أدوات جديدة وينظرون في أمكنة جديدة ويرون أشياء جديدة من خلال الثورات وأدواتهم المألوفة.
وإن التغيير مع البراديغم ليس إلا تفسير العالم للمشاهدات التي هي بحد ذاتها ثابتة أبداٍ بطبيعة المحيط وجهاز الإدراك الحسي واستناداٍ إلى وجهة النظر هذه يقال أن بريستلي ولافوازييه رأيا الأوكسجين لكنهما فسرا مشاهداتهما تفسيرات مختلفة كذلك اختلف أرسطو وغاليلو في بعض اكتشافاتهما أو في تفسيرهما.
وليس خطأ أن يعتبر العلماء نظرتهم وتفكيرهم من الأمور الأساسية بل إن هذا جزء جوهري من براديغم فلسفي ابتدأه ديكارت وتطور في الوقت نفسه على صورة ديناميكا نيوتن وقد خدم ذلك البراديغم العلم والفلسفة خدمة كبيرة وقد تم استغلاله.
وفي هذه الأيام تتلاقى الأبحاث في أجزاء من الفلسفة والسيكولوجيا وعلم اللغة وحتى في تاريخ الفن في فكرة أن البراديغم التقليدي خاطئ نوعاٍ ما وقد صار إخفاق ذلك البراديغم في الملائمة واضحاٍ وبصورة متزايدة بدراسة تاريخ العلم الذي لابد أن نوجه إليه معظم انتباهنا.
الثورات لا ترى بالعين
يتوجه الكاتب بسؤال عن الكيفية التي تنتهي به الثورات العلمية وقبل أن يحاول الشروع في ذلك فقد حاول تقديم عرض عن الثورات بواسطة الأمثلة التوضيحية المختلفة والتي أدت إلى الملل والواضح أن معظمها قد انتقي عن عمد لمألوفيته ولهذا لم ينظر إليها عادة أنها ثورات وإنما كإضافات للمعرفة العلمية.
ومع أن العلم العادي ينتشر بين الناس العاديين عن طريق الكتب التدريسية أو المناهج الطلابية ويتم كتابته عن طريق المتحد العلمي إلا أنه لابد من إعادة كتابة هذه المؤلفات التدريسية جزئياٍ أو كليا كلما حصلت ثورة علمية جديدة.
خمود الثورات
وتمر الثورات العلمية بفترات خمود بعد أن تمر بعدة تجارب علمية تؤدي إلى ازدياد عدد العلماء المؤيدين لهذه النظرية الجديدة وبهذا تزداد عدد المقالات المؤيدة لها وعدد التجارب والأدوات المناصرة لذلك , ويؤدي هذا إلى ازدياد عدد المقتنعين ولا يبقى إلا القليل من المقاومين لهذه النظرية الجديدة وهم غالياٍ ما يكونوا من كبار السن المتمسكين بالنظريات القديمة.
التقدم عبر الثورات
إن التقدم العلمي لا يختلف عن العلم العادي في التقدم والتطور وعلى هذا فإن المؤلف يرى أن خصائص العلم المبدع والمتطور لابد أن يؤدي إلى التقدم, وبهذا فإن اشتراك مجموعة من العلماء في “براديغم” واحد وهذه المجموعات تشترك في “براديغما” موحدة للعمل على تقدم العلم وعلى كل حال فإن نتيجة العلم المبدع هو الناجح والمتقدم.
إن إيجاد شكوك معينة لنظريات ومدارس العلم المختلفة يؤدي ذلك إلى إبراز نقاش حاد يؤدي بالأخير إلى تقدم هذه العلوم والإيمان بها ونشرها عبر مختلف النوافذ الإعلامية.
ومن خلال ما تم عرضه في هذا الكتاب في دور التاريخ في تقدم العلم وطبيعة العلم العادي وظهور النظريات العلمية وطبيعة الثورات العلمية وتقدمها يتضح لنا مدى المجهود الذي بذله المؤلف من خلال إيجاد صورة واضحة عن بنية الثورات العلمية وما تواجهه الأفكار الجديدة من شكوك ومعارضين, ليس من قبل عامة الشعب فقط ولكن من قبل بعض المتحدات العلمية التي تظل ملتزمة بالأفكار القديمة ولا تحاول التأقلم مع الحديث إلا بعد أن تصبح حقيقة واقعة ومثبتة بالحقائق والدلائل ومنتشرة عبر وسائل الإعلام المختلفة وعبر الأكاديميات العريقة.