* كهذا الفتى تماماٍ.. أشعرْ بأنني لست على ما يرام ويبدو أنني لن أكون على ما يرام أيضاٍ لوقت غير قصير.. أبدو كصخرةُ في ظهر جبلُ أحدب تحركني عوامل التعرية بهدوء متناهُ حد ألا أحد يشعر بذلك حتى أنا.. أعلم ويعلم الوجود من حولي خطورة وضعي وبقائي على رأس تلك الانحناءة المتوترة غير أن الاعتيادية الأزلية لتلك الحالة تظل تركل كل مشاعر الخوف والحزن والاستغراب أيضاٍ تجاهي فلم يحدث من قبل أن تدحرجتْ فأصبتْ شيئاٍ بأذى.. ولكن تظل كرويتي الخالية من الزوائد والزوايا طْعماٍ مشكوكاٍ في رأس هذه السنارة الثابتة منذ عقدين من الزمن.. سنِارة الإغراء بتبدْل حتميُ ما كثيراٍ ما ينسى قدري انتظاره وبالتالي لا يفوته هو بالمرة أن ينسى أن يشيخ.
* كهذا الفتى تماماٍ.. أقتعدْ أرجوحةٍ ذات ساقين طويلين جداٍ وأبدأْ في دفع جسدي بهدوء سرعان ما يقودني للنعاس.. أغفو للحظات تسرق مني التردْد والخوف من مغبة الوقوع على رأسي وأحياناٍ أشعر بأن سرعتي تتجاوز قوة دفعي المعتادة لجسدي فأدركْ أن هواءٍ عابراٍ راق له أن يشاركني لهو التأرجح.. وفي أحيانُ أخرى أباغِتْ بدفعةُ قويةُ أشعر على إثرها بإمكانية الطيران بدون جناحين فائضين أو محرك تحليق نفِاث فأنتبه على دوي شهقةُ مجترةُ من أعماقُ جديدةُ لم أصل إليها من قبل في داخلي المهيأ للاكتشاف فلا أجد بداٍ من أن ألتفت إلى الوراء علي أعي مع من أو ما أتعامل.. ولأن السرعة أداةَ من أدوات التبدْل لا ألمحْ أكثر من تفاصيل مبهمةُ لكائن آخر يكاد بشابهني أو ربما يرتدي ذات الملابس التي أرتديها.
* كهذا الفتى تماماٍ.. أداخلْ أحياناٍ ذراعيِ في بعضهما بعصبيةُ زائدةُ فتتشابكان بتعقيدُ مفرطُ يجعلني لا أدركْ التفريق بينهما.. أثير فيما بينهما فتنةٍ لم تكن منتظرةٍ وحين يتجاوز الأمر مداه المعقول أحارْ في كيفية فصلهما عن بعضهما وإعادة كلُ منهما إلى مكانه الطبيعي.. وأخيراٍ أنام مجهداٍ وحين أستيقظ أجد كلاٍ منهما قد صار في حال سبيله..
ربما أندهش للوهلة الأولى ولكن لإدراكي بأنني لن أجد إجاباتُ معقولةٍ لتساؤلاتي أجبر نفسي على تناسي الأمر برمته والتغاضي عن تذكْره مرةٍ أخرى تحاشياٍ لأية مفاجآت قد تستهلك اهتمامي وانشغالي وأيضاٍ عمري الذي يجب أن أستأثر بأكثر ما أستطيع منه لنفسي.
* كهذا الفتى تماماٍ.. أتعاملْ مع الأيام وكأنها ورق نصيب أبتاعها تباعاٍ وأشغل بها كل مساحةُ ممكنةُ مني ثم أتقيأها وأعاود الكرِات معها.. تجربةَ أدركْ جيداٍ بكونها فاشلة ومع ذلك يطيب لي التعامل معها وجعلها نسقاٍ أساسياٍ من أنساق حياتي التي لا أعلم حتى اللحظة ما إذا كنت أستطيع أن أحبها.. وأعلم جيداٍ أنني لم أكن يوماٍ ولا يبدو أنني سأكون على اتفاقُ مع ما يسمْونه الحظ.. بالنسبة لي الحظ ليس أكثر من كائنُ تافهُ يستهلك بلذةُ متناهيةُ أمنياتنا الممعنة في التسويف.. يأخذها من يدها في تصاعده اللامنتهي وحين يصل بها إلى ذروةُ من الذروات العشوائية يتخلى ببساطةُ عن يدها إما لتقع حيث لا أدرك من الأمكنة أو لتظل عائمةٍ في الفضاء خارج مدار الجاذبية..
وأحياناٍ أنظر إليه -أعني الحظ- كمادةُ إدمانيةُ عالية النيكوتين تستدرجنا لذِتْها إلى تصلْب الشرايين وأمراض القلب والسرطان..
فيما ينظر إليِ من جانبه بازدراء مبالغَ فيه وألاحظْ حين أعبر جواره أو أخطر على باله كيف أنه يعرض بكامل كله عن مروري ويشغل نفسه مثلاٍ بأن يْكسر الزوائد اليابسة من غصون الشجر المطلة من فنائه على الطريق.
كهذا الفتى تماماٍ.. أشعر وكأنني علبة مشروب غازي لم تْفتح بعد غير أن لا أكثر من الغاز بداخلها.. حين تحملها تشعر للحظة الأولى بفارق وزنها وحين ترجْها لا تجد بداخلها شيئاٍ يهتزْ أو يتماوجْ كما ينبغي لأي مادةُ مشابهةُ..
يراودك فضولك بإلحاح لأن تقتحمها وتستبطن أسرارها ولكن ما أسرع ما يكبل التوجْس يديك إلى جذع شجرةُ مسنِةُ يْطلق عليها الصمت فتكتفي بالتأمل ملياٍ في معطيات ما استطاعت أن تلتقطه حواسك.. وتزمْ شفتيك وتصفر بأغنيةُ من مفضلاتك فقط لتبرهن لنفسك عدم اكتراثك بالأمر.
* كهذا الفتى تماماٍ.. تعشق امرأةٍ ناضجةٍ في رصيدها العمري والتجريبي ضعف ما لديك لتؤكد على أنك أصبحتِ أيقونةٍ من فولاذ وأن في قدراتك التعامل مع الحياة بكمال من سبقوك من المغامرين الأذكياء.. ولتثبت لنفسك أنك لم تعد بحاجةُ إلى من يمد إليك يده بمصروفك المدرسي وثمن جوارب رياضية جديدة.. مع أنك تدرك بلا أدنى شك في داخلك أنك ما تزال محتاجاٍ كثيراٍ إلى من يقلم أظافرك ويمشط شعرك ويعد لك كأس الحليب قبل أن تنام..
وكهذا الفتى أيضاٍ.. تنظر من ثقبُ صغير في باب منزلكم الموصد فتشعر أن بإمكانك أن تْعدل كلِ التفاصيل المهمة والمهملة أيضاٍ في الشارع الممتد إلى اللا نهاية.. وبمجرِد أن ينفتح الباب لا يقابلك سوى الانبهار والحيرة يجمدانك عند الخطوة الأولى فتتمنى لو أنك لم تفكر مجرِد تفكير في اقتراف هذه المغامرة الشائكة.. وسرعان ما تلتفت إلى الوراء أيضاٍ.. ولكن هذه المرة ليس لأكثر من أن تتشبث مجبراٍ بمظهرك الطفولي.
* كهذا الفتى تماماٍ.. تجمعْ كلِ أحلامك البائتة وأمنياتك الغضة وترميها في سلة الغسيل.. وتبقى عارياٍ حتى تجد كومة القماش يداٍ خبيرةٍ تستطيع معادلة ما علق بها من تجارب سالفة ثم يظل انتظارك يراقبها على حبل التجفيف.. وحين تلوح الفرصة المواتية تتلفتْ يمنةٍ ويسرةٍ وتتسللْ في حضن الظلام لتلتقط ما تقع عليه يدك وتعاود بلهفةُ كبيرةُ تجربة الاستتار بما يجود به الممكن وتمليه تفاصيل الوافع..
تجلس مع نفسك طويلاٍ فتجد أنك ما تزال حقاٍ بحاجةُ إلى النوم باكراٍ وأن عودك ما يزال كما يقال طرياٍ.. تقف أمام المرآة فتتحدث إلى نفسك عبر تلمْس ذقنك وصدغيك ولبرهةُ تضع عينيك في عينيك وتسترجع ما أملته عليك نزواتك الشريرةْ.. يسري في دمك سأمَ ثقيلَ فتتثاءب وفجأةٍ تْسلم جسدك إلى أقرب مساحةُ مسطحةُ تستطيع أن تنقلك إلى صباحُ آخر لم تكن تضعه في حسبانك.
* كهذا الفتى وأكثر.. ما تزال تتسلِقْ جدران الوقائع وتتلصِصْ بمتعةُ وربما بنذالةُ ممعنةُ على الحقيقة تْمرغ جسدها في تأملك.. تلعق شفتيك وتْقلبْ عينيك في تفاصيلها العنقودية ثم ترسم لها مساراٍ مناسباٍ يوافق مطامعك.. ورغم ما يعتقده الآخرون من كهولةُ ظاهرةُ على لهفتك تهمس للجدار بأن يقترب أكثر من اللازم باتجاه هذه الجميلة التي هيأ لك أن تتنشق مراقبتها وهي تميط عن جسدها ما تراكم من أحلامك وتخيلاتك التي كنت تعتقد أنها مهيأة للتحقق وأنها أكثر براءة مما يبدو لك الآن..
وكهذا الفتى وربما أبلغ.. تكتشف أن ذروة ماوصلت إليه لا يتجاوز كونك قد غدوت كهلاٍ مدججاٍ بالطفولة وشريراٍ يكثر من الأناقةٍ.