مرات عديدة لا تْحصى أعبرْ مدينة ذمار مثلما يعبرها الكثير من المارة والمسافرين إلى محافظات إب وتعز والضالع والبيضاء ولحج وعدن وأبين أثناء ذهابهم وإيابهم إلى العاصمة صنعاء,بحكم توسطها الجغرافي الذي يجعلها في قلب اليمن.
لكن يبدو أن هذا الموقع الفريد لمدينة ذمار لم يشفع لها عند الكثير منا لنْعِرج ولو مرة واحدة نحوها ونكتشف أسرار هذه المدينة التاريخية الموغلة في القدم والحضارة,والتي يشهد لها اسمها على أنها إحدى أهم المدن اليمنية القديمة على الإطلاق, إضافة إلى وجود العديد من المناطق المجاورة لها والتي تْعتبر من أهم المآثر التاريخية في اليمن عموماٍ, مثل مصنعة (ماريا) وحصن هران والمواهب وأنفاق بينون في الحدأ.
أما ذمار القرن أو قرن ذمار –كما يحلو للبعض تسميتها- والتي تقع إلى الجنوب من المدينة القديمة ودخلتú اليوم في عداد مدينة ذمار الكبرى, فإن حكايتها التاريخية وماضيها العريق لايقل عن سابقاتها, ولا تزال آثارها الباقية الماثلة للعيان خير شاهدُ على ذلك, ويراها المسافرون بوضوح كونها تقع على تِلُ مرتفع ومعظم أبنيتها لا تزال منتصبة وإنú كان الخراب قد غزاها من كل جانب في ظل الإهمال الذي طال الكثير من المآثر التاريخية في بلادنا.
هذه المرة آليتْ على نفسي أنú تكون وجهتي مدينة ذمار القديمة, وقد عقدتْ العزم على ذلك وساعدني على المْضي به الصديق العزيز محمد الغربي عمران الذي طاف بي أرجاء ذمار القديمة ودلني على العديد من كنوزها التاريخية التي يجهلها الكثيرون. كانت البداية من حارة الجامع الكبير,حيثْ طفنا بأرجائها وكان لنا شرف زيارة هذا الجامع العتيق الذي تشع جنباته بالنور والروحانية وتعكس مبانيه وحيطانه صفحات مهمة من صفحات التاريخ اليمني العريق.
التقطنا صوراٍ عديدة للجامع الكبير,وخاصة صور النقوش المسندية التي كْتبِتú بخط المسند الحميري,والتي مازالت جنبات الجامع الكبير بذمار تحتفظ ببعضها بحالة جيدة حتى اليوم. إضافة إلى أن الأعمدة الحجرية والمنبر الخشبي كلها شواهد تاريخية على عراقة هذا الجامع الفريد. ويْقال بأن منبر الجامع الكبير بذمار الذي يتميز بالقدِم والعراقةوالموجود حالياٍ في متحف ذمار الإقليميبأنهْ يعود إلى القرن الرابع الهجري ويمثل إحدى روائع الفن الإسلامي بل إنه يعد ثاني أقدم منبر في العالم الإسلامي.
بعد الطواف بالجامع الكبير كانت وجهتنا جامع عماد الدين الذي يحوي ضريح الإمام يحي بن حمزة العلوي مؤلف كتاب الطراز في أسرار البلاغة والإعجاز المطبوع في مصر بثلاثة مجلدات فخمة,والذي يْعدْ من أهم كتب البلاغة العربية على الإطلاق. وهذا الجامع رغم صغره يتميز بنقوشه الفريدة والصندوق الخشبي النادر الموضوع على الضريح.. وتسمية الجامع بجامع عماد الدين يرجع إلى طبيعة الألقاب التي يطلقها اليمنيون على بعض الأسماء حين يطلقون على كل مِنú اسمهْ علي(الجمالي) ومِنú اسمهْ عبد الله(الفخري) وكل مِنú اسمه مركب من عبد واسم من أسماء الله الحسنى الباقية مثل عبد الرحمن أو عبد الكريم (الوجيه) فإنهم أيضاٍ يطلقون على مِنú اسمهْ يحيى (عماد الدين) أو (العماد)..وهذا هو سبب تسمية الجامع بجامع عماد الدين وليس جامع الإمام يحيى بن حمزة.
إضافة إلى ذلك يوجد بمدينة ذمار القديمة جامع (داديه) وهو جامعَ غايةَ في الروعة,ويعود تاريخ بنائه إلى العهد العثماني في اليمن,وذلك واضحَ حتى من التسمية,وهناك أْسرة في ذمار لا تزال حتى اليوم تحمل هذا اللقب التركي.
فضلاٍ عن ذلك هناك مبنى اندثر جزء كبير منه قال الصديق محمد الغربي عمران وبشهادة بعض المعمرين من كبار السن أنه كان معبداٍ لليهود الذين كانوا يقطنون مدينة ذمار القديمة قبل جلائهم عن اليمن منتصف القرن العشرين الميلادي.
وتتميز المدينة القديمة أيضاٍ بالمشربيات البديعة المقاشم الفسيحة التي تعطي فرصة للبيوت المطلة عليها للاستمتاع بهواءُ نقي ومناظر خلابة تْريحْ النفوسِ,وتجلو الأبصار.وهذه المقاشم عبارة عن ساحات واسعة داخل الأحياء السكنية مخصصة لزراعة أهم البقوليات والخضروات التي يستهلكها السكان بشكل يومي كالكراث والبقل والكزبرة.
ولا تزال أزقة ذمار القديمة تحتفظ بالعديد من المعالم التاريخية,بما في ذلك البوابات الكبيرة التي تفصل الأحياء عن بعضها البعض. إلا أن المْلِاحِظ أن مدينة ذمار القديمة لم يكن لها سور يحيط بها مثل بقية المدن القديمة في اليمن,وهو ما يثير التساؤل ويدعو الباحثين لتسليط الضوء عليه,خاصة وأن كل من سألتهم من كبار السن والمهتمين بالتاريخ أكدوا أن مدينة ذمار القديمة لم تكنú مسورة. ولا يزال هذا الموضوع بالنسبة لي أمر محير وأبحث في بطون كتب التاريخ اليمنية عما يفسر لي هذه الظاهرة أو يؤكد أنهْ كان للمدينة سور وتهدم قبل أن يشهدِهْ مِنú تعمر بالسن من أبناء ذمار الأحياء.
وبالعودة لكتب التاريخ للبحث عن سبب التسمية ترجح لدينا أن ذمار سْميِتú بهذا الاسم نسبةٍ إلى الملك الحميري (ذمار علي) الذي عْثرِ على تمثاله في منطقة بينون التاريخية بالحدأ. ويذكر الهمداني في كتابه « صفة جزيرة العرب» أن ذمار قرية جامعة بها زروع وآبار قريبة ينال ماؤها باليد ويسكنها بطون من حمير وأنفار من أبناء الفرس و بها بعض قبائل عنس, ويضيف الهمداني عن « ذمار»: ((مخلاف نفيس كثير الخير عتيق الخيل كثير الأعناب والمزارع و بها (بينون وهكر) وغيرها من القصور القديمة وفيها جبل (اسبيل) وجبل (اللسي) وعدد كبير من الجبال)).
ذمار التي غزتها المِدِنيةْ الحديثة من كل مكان لا تزال تحافظ على طابعها التاريخي وخصوصيتها القديمة من خلال الأسواق التي مازالت على عهدها القديم مع تغيرُ طفيف يْشعرْ الزائر لها أنهْ فعلاٍ في أحد أسواق العهود الإسلامية القديمة أيام الدولة العباسية وغيرها, فسوق الحبوب لا يزال كما هو يبيع شتى أصناف الحبوب اليمنية الأصيلة, ولا تزال روائح التوابل النفاذة تفوح من جنباته لتؤكد عراقة أسواق ذمار القديمة, فضلاٍ عن تمسك أبنائها بإرثهم الحضاري في التسوق والبيع والشراء على النمط القديم للآباء والأجداد.
وإذا كان بإمكان مِنú يزور مدينة ذمار نسيان شيء ما من معالمها فإنهْ لا يمكنه تجاهل أو نسيان جامع مدرسة الشمسية الذي يقع في القلب منها وكان لمدرسته شهرة واسعة عبر حقب التاريخ وإلى وقتُ قريب, حيث تخرجِ منها العديد من أعلام اليمن في شتى العلوم أمثال أديب اليمن الكبير عبد الله البردوني والقاضي المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع والأستاذ الشهيد جار الله عمر وغيرهم.
ذمار التاريخ والعراقة واللْطف والظرافة لا يغادرها الإنسان إلا مْرúغِماٍ, ولهذا أجد نفسي مازلتْ أشتاق لزيارتها والتفتيش الدقيق عن مكنوناتها الحضارية التي تزخر بها ولا يكفيها هذا الاستطلاع البسيط, وأسألْ اللهِ أنú يكون ذلك قريباٍ.