المهن المهاجرة

تتفق آراء المهتمين بعلم التاريخ أن المؤرخة ثريا فاروقي الأستاذة في جامعة «بيلجي» في إسطنبول هي أحد المؤرخين المعترف بهم عالميا بالتأريخ للحياة الاقتصادية والاجتماعية للإمبراطورية العثمانية. وكانت قد أسهمت في تجديد الدراسات العثمانية خلال العقود الأخيرة عبر استثمار عدد من المصادر التي لم يكن قد جرى استثمارها سابقا في أغلب الأحيان وعبر تعرضها لمناقشة الأوجه المختلفة للعالم العثماني. وكانت ثريا فاروقي قد قدمت في إطار دراسة ذلك العالم سلسلة من الكتب التي عرفت الترجمة إلى العديد من اللغات العالمية.
وهي تكرس كتابها الأخير الذي يحمل عنوان « الانتقال والحرفيين في الإمبراطورية العثمانية»- بمعنى الانتقال للإقامة والعمل في مكان آخر- لبحث الطرق التي كان فيها أبناء مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية في الإمبراطورية العثمانية ينتقلون من مكان إلى آخر..
وكذلك البحث في الأسباب الكامنة وراء ذلك الانتقال. بكل الحالات تؤكد المؤلفة أن السلاطين العثمانيين والإداريين الذين كانوا يعملون تحت إمرتهم لم ينجحوا في فرض «رقابة عامة وصارمة» على حركة الرعايا العثمانيين.
ومن خلال دراسة سبل السفر والانتقال والخريطة الجغرافية للأماكن التي ينطلق منها أو إليها المعنيون تتعرض المؤلفةـ المؤرخة لرسم تفاصيل الحياة اليومية لأولئك العثمانيين العاديين الذين كانوا يمارسون مختلف الحرف. وتضيف على ذلك تركيزها على توصيفهم بـ «عثمانيين يشرعون في الانتقال- من مكان إلى آخر» و«بوتيرة توازي ما تعرفه الأزمنة الحديثة». وتحدد المؤلفة أسبابا عديدة لانتقال المعنيين التي لم يكن أقلها البحث عن عمل أو تحسين شروط العيش.
تفتح المؤلفة في هذا السياق قوسين كي تؤكد أنه رغم التباطؤ الكبير الذي عرفته مسيرة التوسع الإمبراطوري العثماني في القرن الثامن عشر فإن الهجرة من المناطق الأخرى في الإمبراطورية العثمانية إلى العاصمة بقيت هي الأكثر وبالوقت نفسه تميزت تلك الهجرة بثبات معدل المهاجرين. والإشارة بهذا الصدد أن ذلك القرن « الثامن عشر» كان قد عرف تبدلا كبيرا في العالم أجمع.
ما تؤكده المؤلفة- المؤرخة في تحليلاتها هو أنه رغم أن السلطات العثمانية أظهرت بوضوح عدم تشجيعها لقدوم «مهاجرين جدد» إلى العاصمة فإن توافد المعنيين استمر حسب الإيقاع نفسه. وتشرح على مدى العديد من الصفحات أنه كان من بين «المهاجرين» بعض النخب « من رعايا السلطان» والأغلبية من غيرهم لكن كان للجميع دوافعهم في «الانتقال».
تتمثل إحدى النتائج التي ترتبت على توافد مهاجرين بأعداد كبيرة من مختلف المدن ومن مختلف المناطق ومن مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية والطوائف في بروز أشكال من التوتر على خلفية واقع التنوع «الموزاييك» الذي مثلته المجموعات الاجتماعية في المدينة.
تشير المؤلفة إلى أن عدد سكان مدينة إسطنبول قد بلغ في لحظة من القرن التاسع عشر «القمة» على الصعيد الديموغرافي بسبب عامل أضيف لعامل الهجرة إليها من المدن العثمانية الأخرى. العامل تمثل في أن «وباء الطاعون» ضرب المدينة وبالتالي تم منع قاطنيها من الخروج منها من أجل الحد من انتشار ذلك الوباء القاتل.
وكتاب تلقي فيه المؤلفة الضوء على حقبة من الفترة العثمانية التي بقي الكثير من وجوهها في الظل. وترى ثريا فاروقي أن التعرف على تلك الوجوه يساعد كثيرا على فهم الواقع التركي وتوجهات تركيا اليوم.

قد يعجبك ايضا