التكافل المجتمعي في الإسلام.. سـيـل مـن الـخـيـر لا يـنـقـطـع

● (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلمٍا ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . كفانا بهذ الحديث النبوي خير واعظ ودافع إلى الإحسان والتكافل الاجتماعي.
فمن رفق بعباد الله رفق الله به ومن رحمهم رحمه ومن أحسن إليهم أحسن إليه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ..

العلامة محمد القاضي يقول: إن الإحسان ونفع الناس وقضاء حاجاتهم من صفات الأنبياء والرْسل , مستذكرا قصة من أخبار السلف الصالح ما روى أهل السير عن أحمدِ بن مسكين أحد علماء القرن الثالث الهجري في البصرة قال:” امتحنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين فلم يكن عندنا شيء ولي امرأة وطفلها وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا فجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلي رْقاقتين من الخبز بينهما حلوى وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي فنظِرِت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع فاطعمه شيئٍا يرحمك الله ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه فدفعت ما في يدي للمرأة وقلت لها: خذي واطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام فدمعت عيناها وأشرق وجه الصبي ومشيت وأنا مهموم وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مر أبو نصر وكأنه يطير فرحٍا فقال: يا أبا محمد ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى¿! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر¿! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدُ من أهله ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال فقلت: ما خبره¿ قال: إنه تاجر من البصرة وقد كان أبوك أودِعه مالاٍ من ثلاثين سنة فأفلس وانكسر المال ثم ترك البصرة إلى خراسان فصلح أمره على التجارة هناك وأيسِر بعد المحنة وأقبل بالثراء والغنى فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلل فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة) .
ومضى مستطرداٍ قصة أحمد بن مسكين مورداٍ على لسانه قوله : (حمدت الله وشكرته وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها فكفيتهما وأجرِيت عليهما رزقا ثم اتجرت في المال وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد مْلأِت سجلاتْ الملائكة بحسناتي ورجوت أن أكون قد كْتبت عند الله في الصالحين فنمت ليلة فرأيتْني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض ورأيت الناس وقد وْسعِتú أبدانْهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات ثم وضعت الموازين وجيء بي لوزن أعمالي فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى فطاشت السجلات ورجحت السيئات ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه فإذا تحت كل حسنةُ شهوةَ خفيةَ من شهوات النفس كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس فلم يسلمْ لي شيء وهلكتْ عن حجتي وسمعتْ صوتٍا: ألم يبق له شيء¿ فقيل: بقي هذا وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها فأيقنت أني هالك فلقد كنت أْحسنْ بمائة دينارُ ضربةٍ واحدة فما أغنِت عني فانخذلت انخذالاٍ شديدٍا فوْضعِت الرقاقتان في الميزان فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاٍ ورجحت بعضِ الرجحان ثم وْضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي وإذا بالكفة ترجْح ولا تزال ترجْح حتى سمعت صوتٍا يقول: قد نجا . وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فما أعظم الإحسان وما أوسع دلالته وكفانا من هه القصة عظة وعبرة.

أنفع الناس
وأما العلامة محمد شرف الدين استهل حديثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلمٍا ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) .
وقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “من رفق بعباد الله رفق الله به ومن رحمهم رحمه ومن أحسن إليهم أحسن إليه ومن جاد عليهم جاد عليه ومن نفعهم نفعه ومن سترهم ستره ومن منعهم خيره منعه خيره ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه” .
متطرقاٍ إلى وجوه من الخير والإحسان مستدلاٍ بقول النبي الأعظم : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار)).

عبرة حسنة
ومتحدثاٍ عن الصحابة رضوان الله عليهم في الاقتداء بطرق الإحسان ومسالكه فأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقدم ماله كله لله والفاروق رضي الله عنه يقدم نصف ماله لله وعثمان رضي الله عنه يشتري الجنة من الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة حين حفر بئر رْوúمِة ومرة حين جهز جيش العسرة , فنفع من صفات الأنبياء والرْسلº فالكريم يوسف – عليه السِلام – مع ما فعله إخوتْه جهِزهم بجهازهم ولِم يبخسهم شيئٍا منه وموسى – عليه السِلام – لِمِا ورد ماء مدين وجد عليه أمِة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتِيúن رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتِى رويت أغنامهما. وخديجة – رضي الله عنها – تقول في وصف نبينا – صلِى الله عليه وآله وسلِم -: “إنِك لتِصل الرِحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).

تعزيز الأخوة
فيما تحدثت الداعية أماني حيدر – جامعة القرآن الكريم وعلومه عن فضل الإحسان وعظيم منزلته مستدلة بقوله تعالى { وِأِحúسنْوا إنِ اللِهِ يْحبْ الúمْحúسنينِ وقوله :{ فِآتِاهْمْ اللِهْ ثِوِابِ الدْنúيِا وِحْسúنِ ثِوِاب الúآخرِة وِاللِهْ يْحبْ الúمْحúسنينِ ) و{إنِ اللِهِ مِعِ الِذينِ اتِقِوúا وِالِذينِ هْمú مْحúسنْون)و(هِلú جِزِاءْ الúإحúسِان إلِا الúإحúسِانْ) , فما أعظم أن نتصف بهذه المنزلة العظيمة قولاٍ وعملاٍ بالإحسان مع إعمالنا وعطائنا لمن حولنا لنعزز معنى الأخوة وروح التكافل الاجتماعي.

مسالك الإحسان
ومضت بالقول : وهنا قد بين العلماء سبل الإحسان والعطاء ومن أبرزها : الإحسان في العبادات والمعاملات والإحسان بالنفع البدني: وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد, فيمنع الظالم من الظلم, و يميط الأذى عن الطريق- مثلٍا-, وهذه الطريق هي التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث المتفق عليه: [كْلْ سْلِامِى منú النِاس عِلِيúه صِدِقِةَ كْلِ يِوúمُ تِطúلْعْ فيه الشِمúسْ يِعúدلْ بِيúنِ الاثúنِيúن صِدِقِةَ وِيْعينْ الرِجْلِ عِلِى دِابِته فِيِحúملْ عِلِيúهِا أِوú يِرúفِعْ عِلِيúهِا مِتِاعِهْ صِدِقِةَ وِالúكِلمِةْ الطِيبِةْ صِدِقِةَ وِكْلْ خْطúوِةُ يِخúطْوهِا إلِى الصِلِاة صِدِقِةَ وِيْميطْ الúأِذِى عِنú الطِريق صِدِقِةَ] ومن ثم الإحسان بالمال: ومن وسع الله عليه الرزق, وآتاه المالº فإن عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها, فيقضي الحاجة, ويواسي المنكوب, ويفك الأسير, ويقري الضيف, ويطعم الجائعº تحقيقٍا لقوله سبحانه:{…وِأِحúسنú كِمِا أِحúسِنِ اللِهْ إلِيúكِ.)
بالإضافة إلى الإحسان بالجاه والإحسان بالعلم وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التكافل المجتمعي
يقول جابرَ – رضي الله عنه -: “ما سْئل رسولْ الله – صلى الله عليه وسلم – شيئٍا قطْ فقال: لا سألِه رجلَ غنِمٍا بين جبلِيúن فأعطاه إيِاها” وبلغِ من عطائه: أنه أعطى ثوبِه الذي على ظهره ومن عطائه لأمِته: أنه سخِر حياتِه لها نذيرٍا وبشيرٍا قائلاٍ: ( إنú هْوِ إلِا نِذيرَ لِكْمú بِيúنِ يِدِيú عِذِابُ شِديدُ ) وقال في أبي بكرُ – رضي الله عنه -: «ما نفعِني مالَ قطْ ما نفعِني مالْ أبي بكر» فبكى أبو بكرُ – رضي الله عنه – وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله¿!
هكذا استهلت رقية بدر – مرشدة دينية حديثها معنا عن الإحسان , وأضافت بالقول: لقد كان الرسول لنا ومازال قدوة حسنة في الإحسان والبر والتكافل والعطاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, مستطردة مشاهد من العطاء والإيثار والإحسان لصحابة رسول الله مع نبيهم حيث وقفِ سعدْ بن معاذ ممثلاٍ وفاء الأنصار فقال: “يا رسول الله! والذي بعثِكِ بالحقº لو استعرضتِ بنا هذا البحرِ فخْضتِه لخْضناه معك صل من شئت واقطِع من شئت وخْذ من أموالنا ما شئت وما نكرهْ أن نلقِى عدوِنا غدٍا وإنا لصْبرَ عند الحرب صْدúقَ عند اللقاء لعلِ اللهِ يْريكِ منِا ما تقرْ به عينْك”. و ابنْ عباس – رضي الله عنهما – أنه كان يجلسْ في الحرم بعد الفجر فيقول: “هيِا عليِ بأهل القرآن” فيأتي أهلْ القرآن فيقرؤون إلى طلوع الشمس فيقول: “ارتفعوا ائتْوا بأهل الحديث” فيسألونِه ثم إذا انتهِى منهم قال: “ارتفعوا ائتْوا بأهل الفقه” ثم أهل التفسير ثم أهل العربية وهكذا ثم يْربي أصحابِهº فجمعِ في عطائه الحْسنِيِيúن: بذلِ العلم وكرمِ اليد.

جزاء لا ينقطع
وختمت حديثها بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة». وبقول صلوات الله عليه وآله : «أيما أهل بقعة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت
منهم ذمة الله ورسوله». وبوعظ الإمام ابن حزم في ذلك في كتابه المحلى: «وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين بهم فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة ) فمن لا يرحم لا يرحمه الله ومن كان على فضله ورأى المسلم أخاه جائعا عريانا ضائعا فلم يغثه فما رحمه».

قد يعجبك ايضا