كيف تتحكم القوى الكبرى بالسياسات البيئية العالمية؟

محمد عبدالمؤمن الشامي

 

 

رهينة. هكذا أصبحت البيئة والدول النامية بين أيدي القوى الكبرى، حيث لم تعد القضايا البيئية مجرد أدوات حماية للكوكب، بل تحولت اليوم إلى أداة ضغط اقتصادي وسياسي لإعادة توزيع النفوذ العالمي. أحدث مثال على ذلك جاء من المنظمة البحرية الدولية، التي أعلنت عن خطة فرض “إطار العمل الصافي الصفري” للحد من الانبعاثات في قطاع الشحن الدولي. على الورق، بدا الإطار خطوة بيئية ضرورية، يتضمن معايير للوقود وآلية لتسعير الانبعاثات، لكنه في الواقع يُمثل ضريبة كربون عالمية سترفع تكاليف النقل والشحن والطاقة بشكل كبير، وستكون الدول النامية والمستهلكون الأضعف في مواجهة هذه الأعباء.
الولايات المتحدة كانت في طليعة الرافضين. إدارة الرئيس ترامب اعتبرت أن الإطار يمثل تهديدًا مباشرًا لمصالح الاقتصاد الأمريكي والصناعة الوطنية. أي زيادة في أسعار الوقود أو الشحن كانت ستنعكس فورًا على المستهلكين والشركات، حتى مع قدرة أمريكا التقنية والمالية على التكيف. وشدد ترامب على أن بلاده لن تقبل أي اتفاقية دولية تفرض أعباءً غير عادلة، وأنها ستسعى للحصول على دعم عالمي لوقف هذا الإجراء، مع الحق في الرد أو البحث عن انتصاف لمواطنيها إذا تم فرض المعايير. هذا الموقف لم يكن مجرد رد فعل، بل تحرك استراتيجي لضمان سيطرة الولايات المتحدة على صياغة المعايير الدولية بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية.
نتيجة الضغط الأمريكي، أعلنت المنظمة البحرية الدولية تأجيل التصويت على الإطار لمدة عام كامل، مع استمرار العمل على إعداد المبادئ التوجيهية بين الدورات. هذا التأجيل، رغم أنه قد يبدو إجراءً فنيًا، كان في الحقيقة انتصارًا سياسيًا واقتصاديًا للولايات المتحدة، وأظهر كيف تتحكم القوى الكبرى في توجيه القرارات الدولية لصالحها، بينما تبقى الدول النامية والبيئة أسيرة للقرارات التي تفرض عليها.
التحليل الاقتصادي يكشف أن المنظمات الدولية ليست مستقلة. فهي تعتمد على التمويل السياسي والاقتصادي من الدول الكبرى، وتعمل وفق موازين القوة بينها، ما يجعل أي سياسات بيئية غالبًا تُفرض لصالح تلك القوى وليس لصالح العالم أو التنمية المستدامة. أي ضريبة كربون أو معيار وقود صارم يؤدي إلى رفع تكلفة تشغيل السفن وزيادة أسعار الشحن والسلع، وهو ما تتحمله الدول النامية بشكل أكبر، لأنها تفتقر للقدرة المالية والتكنولوجيا المتقدمة اللازمة للامتثال بسهولة.
بهذا تصبح البيئة والدول النامية رهينة بين النفوذ الأمريكي ومصالح القوى الكبرى وصلاحيات المنظمات الدولية. أي تحرك بيئي على المستوى العالمي يتحول من قضية حماية الكوكب إلى أداة ضغط اقتصادي وسياسي، تحدد من يملك القرار ومن يدفع الثمن. الدول النامية، التي غالبًا ما تعاني من نقص التمويل والتكنولوجيا، تواجه خيارًا صعبًا بين الامتثال المكلف أو التخلف عن الركب الاقتصادي العالمي، بينما تتحرك الدول المتقدمة بحرية لحماية صناعاتها وأسواقها، مع القدرة على التكيف دون تحمل تكاليف كبيرة.
الدول النامية والبيئة أصبحتا رهينة بين القوى الكبرى والمنظمات الدولية، تتحملان الأعباء المالية والمعيشية، بينما تُستخدم المعايير البيئية كأداة لإعادة توزيع النفوذ والثروة. الدول المتقدمة ليست مضطرة للضرر، لكنها تتحرك لضمان أن أي معايير دولية تُطبق بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية، مع الاستفادة من مرونتها التقنية والمالية.
هذا الواقع يعكس ما يمكن تسميته بالاستعمار البيئي الناعم، حيث تُفرض على الدول النامية قيود ومعايير مكلفة بحجة حماية الكوكب، بينما الدول الكبرى تتحكم في التمويل والتكنولوجيا وتطبيق المعايير. البيئة لم تعد هدفًا مشتركًا، بل أصبحت أداة ضغط اقتصادي وسياسي للتحكم في الأسواق العالمية للطاقة والشحن والتجارة.
تتجلى هذه الديناميكية بوضوح في قطاع النقل البحري، حيث أي ضريبة أو معيار جديد يرفع تكلفة تشغيل السفن، ويؤثر على أسعار الشحن للسلع الأساسية والمنتجات الاستهلاكية، ويزيد من تكاليف الطاقة. حتى السفن الصغيرة والموانئ في الدول النامية تتحمل أعباء مالية بملايين الدولارات، مما يقلل قدرتها التنافسية ويزيد اعتمادها على الشركات والدول الكبرى. الدول المتقدمة تظل الأكثر استفادة وتحكمًا في الأسواق العالمية، بينما الدول النامية والبيئة تدفع الثمن. هذا يؤكد أن البيئة لم تعد مجرد قضية حماية للكوكب، بل أداة هيمنة اقتصادية وسياسية.
الأثر على البيئة نفسها ليس مضمونًا كما يُعلن، إذ أن فرض معايير وقود باهظة الثمن أو ضريبة كربون عالمية قد يؤدي إلى تأجيل التحول الفعلي للتقنيات النظيفة في الدول النامية، بسبب ارتفاع التكاليف وعدم توفر التكنولوجيا المناسبة. وبالتالي، بدلًا من تقليل الانبعاثات عالميًا، قد تتباطأ جهود حماية البيئة، بينما الدول الكبرى تظل رائدة في استخدام الطاقة النظيفة بفضل قدرتها المالية والتكنولوجية، فتتحقق مصالحها الاقتصادية أولًا، والبيئة ثانويًا.
الأمثلة الواقعية على تأثير السياسات البيئية على الدول النامية عديدة، منها ارتفاع تكلفة الشحن البحري للبضائع الغذائية والسلع الأساسية، مما يزيد من أسعار المواد في الأسواق المحلية ويضغط على الاقتصاد الوطني. كما أن القيود الجديدة على الوقود تفرض على الصناعات الناشئة في الدول النامية تكاليف إضافية قد تؤدي إلى توقف بعض المشروعات أو انخفاض التنافسية أمام الشركات الدولية. هذا الواقع يعكس التفاوت الكبير في القدرة على الامتثال للتشريعات البيئية بين الدول الغنية والفقيرة.
حتى بعض الدول التي تمتلك موارد طبيعية محدودة، تجد نفسها مجبرة على الاستثمار في تقنيات باهظة الثمن لمواجهة المعايير الدولية، بينما الدول الكبرى تتحكم في توافر التكنولوجيا والأسواق العالمية للوقود النظيف. وهذا يخلق حلقة تبعية اقتصادية وبيئية تجعل الدول النامية تدفع الثمن في الوقت الذي تظل فيه البيئة معرضة لمخاطر إضافية بسبب التأخير في تطبيق الحلول الفعالة.
ومع كل هذه الأعباء الاقتصادية والسياسية، تبقى أهمية الحفاظ على البيئة واضحة وحيوية. فهي ليست رفاهية، بل ضرورة لضمان استدامة الموارد الطبيعية وحماية الأجيال القادمة. الانبعاثات غير المضبوطة تؤدي إلى تغيّر مناخي حاد، يزيد من الكوارث الطبيعية، ويؤثر على الأمن الغذائي والمائي في الدول النامية قبل المتقدمة. وهذا يضع المسؤولية الأخلاقية والاقتصادية على كل دولة، ليس فقط للحد من الانبعاثات، بل لضمان تطبيق سياسات عادلة وفعّالة دون تحميل الدول الفقيرة أعباء غير متناسبة.
الواقع يمتد إلى كل القرارات البيئية الدولية، حيث تُشكل السياسات وفق مصالح الدول القوية، ويتم توجيه التمويل والتكنولوجيا بما يخدمها، بينما تتحمل الدول النامية والبيئة العبء الأكبر. أي اتفاقيات أو ضوابط بيئية غالبًا ما تفرض أعباء مالية وتقنية كبيرة على هذه الدول، دون أن يكون لديها القدرة على التأثير الفعلي في صياغة القرارات. كل هذا يجعل البيئة أداة ضغط سياسي واقتصادي أكثر من كونها هدفًا علميًا أو أخلاقيًا.
الخلاصة واضحة: البيئة لم تعد قضية علمية أو أخلاقية فحسب، بل أصبحت أداة لإعادة ترتيب السلطة الاقتصادية والسياسية عالميًا. الدول النامية والأجيال القادمة أصبحت رهينة بين قرارات القوى الكبرى والمنظمات الدولية، بينما تتحرك الدول المتقدمة لحماية مصالحها، وضمان ألا تُفرض عليها أعباء مباشرة. المستقبل يتطلب إعادة تعريف العدالة البيئية كحق سيادي لكل دولة، مع سياسات توازن بين حماية المستهلك، حماية الصناعة الوطنية، وضمان استدامة البيئة، مع الحفاظ على الالتزام بالمعايير البيئية الضرورية لمواجهة التغير المناخي.
لكن يبقى التساؤل الأهم: هل ستظل المنظمة البحرية الدولية، والدول النامية، والبيئة أسيرًا لسياسات أمريكا والدول الكبرى، أم أن هناك فرصة لإعادة رسم قواعد اللعبة الدولية بشكل أكثر عدلاً واستدامة؟ البيئة اليوم في قبضة السياسة والمال، والدول النامية تدفع الثمن، بينما القوى الكبرى تحدد قواعد اللعبة الدولية لصالحها، مؤكدة أن الملف البيئي أصبح أداة هيمنة اقتصادية عالمية أكثر من كونه ميدان تعاون مشتركاً، ما يجعل التساؤل عن مستقبل العدالة البيئية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

قد يعجبك ايضا