لم يكن وداع الفريق الركن الشهيد محمد عبدالكريم الغماري (أبو هاشم)- رضوان الله عليه- مجرد تشييع عسكري لقائد رحل، بل كان زلزالاً استراتيجياً ارتجّت له دهاليز واشنطن وارتعشت منه مفاصل تل أبيب.
في مشهد تخشع له الجبال، تحولت شوارع اليمن إلى محراب عهد وبصيرة وولاء؛ الأمة ودّعت جسداً صعد إلى الخلود فانبثق نور يقود أمة بأكملها.
غادر الغماري الساحة وهو يبتسم في وجه الموت كمن يودع تلميذاً من تلاميذه، مؤكداً أن رحيل الجسد لا يطفئ الشعلة، بل يحولها إلى مصباح يهتدي به الرجال.
كان الغماري مدرسة استراتيجية متكاملة: عقل مفكر، بصيرة مؤمن، وجرأة قائد.
لم يكن رجلاً للمكاتب، بل مهندس معجزة صنع من الحصار منصة انطلاق، ومن العزلة ميدان تصنيع عسكري متكامل.
تحت قيادته أعيد رسم خريطة القوة الإقليمية؛ صنع اليمن قوة ذات قرار ومؤثرة في معادلات الردع، ترسل رسائلها الصاروخية إلى عمق العدو وتعيد للكرامة مكانها في البحار والبر والجو.
من أرض سبأ، ومن أرض الصرخة في وجه المستكبرين، وبسواعد أحفاد الأنصار وحاملي رايات المشروع القرآني، انبثق الإعصار الذي أعاد تعريف المعادلة.
ففي زمن تتكدس فيه النياشين على صدور جيوش خرساء، أعاد الغماري للموقع العسكري قدسيته، وللشرف معناه. فلسطين لديه ليست شعاراً بل بوصلة هوية ومحراب عقيدة؛ ومن بين صمت العواصم المطبعة ارتفع صوته: «لن تكون القدس غريبة ما دام في اليمن قلب ينبض بالإيمان».
وحين ظن العدو أن اليمن لا يملك سوى التراب، كان أبو هاشم يرسم خرائط التحول: تطوير القوة الصاروخية، إطلاق أسراب الطيران المسيَّر، وإعادة تشكيل المعادلات البحرية في الممرات الدولية.
من «بركان» و«ذو الفقار» إلى صاروخ فلسطين ٢ الإنشطاري، إلى أسراب «يافا» وزوارق الصمود في البحر الأحمر – كلها صنعت توازناً جديداً، ورفعت كلفة الاعتداء إلى مستوى لا يُحتمل.
في مدرسة الغماري، الاتكاء على الإيمان كان أساساً لصنع القيادة والتخطيط. الآية كانت منهجاً: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ – فحوَّلت البصيرة القرآنية الجنود إلى صوب لا يزاح، والعقيدة إلى خطط ميدانية تقهر الرعب وتمنح النفس ثقتها.
لم تكن فلسطين هامشاً، بل كانت قبلة مشروعه، وكل عملية في اليمن كانت ترسل دعماً عملياً ومعنوياً إلى «طوفان الأقصى».
رحل أبو هاشم الغماري جسداً، لكنه ترك جيشاً قرآنياً ينهل من فكره ويقاتل بروحه ومدرسة تخرج قادة على منهج الإيمان والاحتضان والتضحية وترسانة وطنية تستمر في تطوير أدوات الردع وعقيدة نصر تغرس اليقين في قلوب الأحرار بأن الشهادة باب لبزوغ عهد جديد.