من رحم غزة الصغير يولد عالم كبير

د. محمد إبراهيم المدهون *

 

 

في قلب الجراح، وبين أنقاض البيوت المدمرة، تخرج غزة، كيوسف هذا الزمان، الذي تنكّر له الإخوة لكنّه لم يتنكر لأهله. مدينة محاصرة لكنها شامخة، تقف وحدها في وجه آلة البطش، تفضح زيف العروش وتعرّي التبعية للهيمنة الأمريكية، وتكشف أن (إسرائيل) لم تعد “دولة”، بل عبء أخلاقي وسياسي وأمني على الإنسانية جمعاء. هنا، في هذا الركن الصغير من العالم، تنبعث كرامة أمة كاملة، وتتجسد مرحلة تاريخية تولد من رحم غزة الصغير.
اندلعت ملحمة 7 أكتوبر، لتعلن بداية طوفان لا يُقهر، دكّ حصون الاحتلال وأربك سردياته، فانتقلت غزة من خانة المفعول به إلى الفاعل، وصاغت بلحظة خاطفة معادلة جديدة: لا تحرير بلا مقاومة، ولا صوت يعلو فوق صوت الصمود. هذه اللحظة التاريخية لم تكن رد فعل، بل نبوءة متحققة، فرضتها أقدام المقاومين ودماء الشهداء، فأعادت تصويب بوصلة الشعوب والضمائر نحو المظلومية الفلسطينية المرتهنة لاحتلال ممتد لأكثر من قرن من الزمن، ولترسم معادلة جديدة أن شعب مظلوم تحت الاحتلال والقهر والحصار قادر على إعادة رسم المعادلة ما امتلك الإرادة والثبات على أرضه.
في زمن منظومة أمريكا الدولية القائمة على الظلم والانحياز، ارتفعت غزة كأيقونة للضمير العالمي، مدينة يحاصرها الحديد والنار، لكنها تكشف زيف “الديمقراطيات” وتعرّي ازدواجية معايير الغرب، وتضع واشنطن أمام مرآة تواطئها السافر. هنا، لم تعد (إسرائيل) دولة قانون، بل عادت لسيرتها الأولى عصابات ابادة تسفك الدماء بزعم أخلاقي مزيّف تعرى حد السفور، لتعيد غزة تعريف مفاهيم الشرعية والمشروعية، وتثبت أن العالم الأمريكي الذي قام على أنقاض الإنسانية المهزومة في الحروب العالمية لا يملك من العدالة إلا اسمها ومن الإنسانية إلا رسمها ومن الأخلاق والقانون إلى ديكوره الذي أسقطوه بملاحقة محكمة العدل الدولية وإجهاض محكمة الجنايات وتقزيم الأمم المتحدة في الفيتو، لتبرهن أن الإنسانية بحاجة إلى نظام دولي عادل لعالم كبير سيولد ولو بعد مخاض عسير من رحم غزة الصغير.
غزة اليوم بعد سقوط (حل الدولتين) تعيد له الروح باعترافات عالمية بدولة فلسطين، وتكشف أن خيار المقاومة هو السبيل الوحيد. وغزة، برغم المحرقة جلبت الاعتراف بدولة فلسطين، رسّخت مكانتها كحامل حقيقي للهمّ الوطني، وأثبتت أن المقاومة ليست شعارًا، بل استراتيجية للنجاة والنصر. من تحت الأنقاض، تبني غزة الوعي، وتشكل معراج الشرف في زمن التردي، لتعلن أن الحصار ليس قيدًا والمحرقة ليست أبداً وإرادة القتال لا يمكن هزيمتها مهما تعاظم القتل، بل منجمًا للكرامة، وتؤكد أن رحم غزة المقاومة ولادة وقادرة على إنجاب تحرير ليس لغزة فقط كما كان في 2005، وإنما لفلسطين، بل وسيولد من رحمها عالم كبير يثبت قيمة المقاومة كحق لكل الشعوب المظلومة الخاضعة للاحتلال الغاصب.
يريد الاحتلال تفريغ غزة بالتطهير الوجودي العنصري، لكن غزة تُقيم الأفراح في الجراح، وتبني الغد من ركام الحصار والدمار، لتصبح أكبر من مدينة: إنها إرادة، وضمير، ونبوءة، وجبهة ضد السقوط الإنساني. تهمس في أذن العالم: لسنا ضحايا، بل رمز التغيير. لسنا مجرد نداء إنساني، بل معادلة نصر وصحوة ضمير، تجسّد جوهر العنوان. ورغم نزوح الملايين، واستهداف المدارس والملاجئ، ترفض غزة الإرادة أن تموت. من بين الأنقاض يخرج داوود بحجارته مقاتلا حد النقطة صفر، ومازال يرتل آلاف حفّاظ القرآن سورة النسف على رأس الوثن المتدثر بأسطوانة غدت مشروخة بمعادة السامية لكل من يهمس مستنكرا جرائمهم السادية والعنصرية. ولا تتوقف غزة عن اُقامة موائد الصبر، وزراعة بذور البقاء. غزة لا تبكي، بل تقاتل، لا من أجل الأرض فقط، بل من أجل الكرامة والوجود الإنساني ذاته، لأنها تدرك أن بقاءها هو الفشل التاريخي للاحتلال، وهي العقبة الكبرى في وجه مشاريع النهب والتطبيع مع مغتصب الأرض ومجرم الإبادة، ليولد من رحم غزة الصغير الشرق الأوسط الكبير غير المرتهن للسيد (الإسرائيلي) وليس المتماهياً مع زمن وحيد القرن الأمريكي.
في معركة الوعي، كسرت غزة التعتيم، وهزمت الرواية الصهيونية، وأعادت بناء السردية الفلسطينية من خلال صور الشهداء وعدسات هواتف أنس وصالح ورفقاهم. لم تعد مجرد ساحة قتال، بل قلعة ثقافية وإعلامية تفرض صوتها عالميًا، وتفكك خيوط الأكاذيب. فالكلمة أصبحت جبهة، والصورة مقاومة، والوعي أداة تحرير. ومنذ أكتوبر 2023، تحوّلت غزة إلى مقياس للعدالة، وبوصلة الضمير العالمي. مئات الآلاف خرجوا في شوارع لندن ومدريد ونيويورك حاملين الكوفية، مرددين اسم فلسطين. باتت غزة أيقونة النضال، تلهب الجامعات والملاعب والميادين، وتفرض وجودها في وجدان العالم. فلسطين لم تعد قصة بعيدة، بل رمز كوني للحقيقة والصمود. وهذا بحد ذاته تجسيدٌ ملحميٌ لمعنى ولادة عالم كبير من رحم غزة الصغير. في مواجهة السقوط الانساني، صمدت غزة كجدار أخلاقي وسياج للكرامة. كل الأصوات التي راهنت على الانكسار، سقطت أمام صلابة وعي الشعب الفلسطيني. في زمن يُقصف فيه البشر والشجر والحجر، تُصبح الحكاية سلاحًا. وعلى غزة أن تواصل تعزيز خطابها السياسي والنضالي والانساني، مدركةً أن ما يحدث ليس نضالًا محليًا، بل معركة توازن دولي، تتحكم فيه غزة بإيقاع الوعي، لتدفع فاتورة مخاضها العسير كاستحقاق إنساني لولادة عالم الأخلاق والقيم الكبير.
وأخيرًا، بينما تتهاوى المؤتمرات الدولية، وتتراجع القوى الكبرى إلى لغة المصالح، تقف غزة وحدها على أنقاض المذابح، لتبشر من دم الشهداء ملامح نظام عالمي جديد، أكثر عدالة وصدقًا. فالمستقبل لن يولد في مكاتب العواصم، بل من دماء أطفال غزة، ومن أظافر شعب يكتب التاريخ وهو يصارع الفناء، ليُعلم العالم أن لا سلام بلا سلام في غزة، ولا عدالة بدون حرية، ولا ضمير عالمي حقيقي إلا إذا وُلد من رحم مخاض غزة العسير.

*كاتب وسياسي فلسطيني

قد يعجبك ايضا