في اللحظات المصيرية التي يُسطّر فيها الشعب اليمني بدمائه، ملحمة صمود تاريخية ضد آلة العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني، مقدماً أغلى ما يملك دفاعاً عن سيادة تراب وطنه وكرامة إنسانه، تطل علينا من عواصم القرار الاستعماري نفسها وجوهٌ أرادت أن تختبئ وراء قناع «الوطنية» وهي ترفل في نعيم التشرد والارتهان.
إن ما يُسوَق تحت اسم «التكتل الوطني الجامع» ليس سوى وليدٌ غير شرعي للحملات الدعائية الممولة من مخابرات دول العدوان، في محاولةٍ يائسة لاستنساخ نموذج الوصاية البائد، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأدوات أشد خسّة.
هذا «التكتل المُعلب» الذي يخرج من رحم الغرف المغلقة في برلين، ليس ظاهرة منعزلة، بل هو حلقة في المسلسل نفسه الذي بدأته «شرعية الرياض» و»هيئة رئاسة المجلس الانتقالي»، حيث تُصنع «الوطنية» حسب المقاس في مختبرات الاستعمار الحديث.
إنه الوجه الآخر لعملة العدوان، المُصمم خصيصاً لتفكيك نسيج الإرادة الوطنية وخلق بدائل سياسية مزيفة تلعب دور «الوكيل المحلي» لأجندة القوى الغازية، وما خطاب «استعادة الدولة» و»إنهاء التمرد» الذي يُلقى من فوق منصات برلين، إلا نفس الخطاب الاستعماري القديم المُعاد تدويره، الذي يختزل «الدولة» في خدمة المصالح الأجنبية ويُعرِّف «الشرعية» بكونها مفهوما مرتبطاً بالخضوع لإملاءات السفارات.
لقد أثبتت سنين الحرب أن شرعية التمثيل لا تُستمد من فنادق العواصم الأوروبية، ولا من بروتوكولات الاستقبال في السفارات، لقد انتقلت شرعية التمثيل من قاعات الأمم المتحدة إلى جبال اليمن وهضابها وسهولها وسواحلها، من صعدة حتى باب المندب، ومن تصويت المجالس الدولية إلى دماء الشهداء على الجبهات.
لقد أصبح سلم الشرعية مصوباً اليوم برتم التضحيات، فأصحاب الحق هم من دافعوا عنه بدمائهم، لا من تنازلوا عنه مقابل تأشيرة دخول إلى عواصم الغرب.
أما الحديث عن «المرجعيات الثلاث» و»القرارات الأممية»، فهو كمن يحاول إحياء جثة بالية، وإعادة آخر ورقة توت سقطت وكشفت عن سوءة «الشرعية الدولية» كغطاء للعدوان وامتهان كرامة الأوطان والإنسان، وعندما أصبحت «القرارات الأممية» أداة للعقاب الجماعي عبر حصار جوع فُرض على شعب بأكمله.
لقد كشفت السنوات العشر الماضية كل الحقائق، ومن أبرزها أن «الشرعية» التي لا تحمي الشعب هي شرعية مزيفة، وأن «الدولة» التي لا تستطيع الدفاع عن سيادتها هي أداة هدم لا يجب تكريسها كدولة في ذهنية الأجيال.
الشرعية اليوم هي شرعية الدم والقضية، شرعية أولئك الذين وقفوا في وجه أعتى قوى العالم دون أن يخضعوا أو يستسلموا، أو يضعفوا أو يهنوا.. ومن يجوز لهم الحديث باسم هذه الأرض، هم جيل المقاومة الذين لم يساوموا الكرامة بمقعد في مؤتمر أو غرفة فاخرة في فندق، لا يقرر منها إلا شكلا من أشكال الخضوع، بخلاف أفراد وجماعات اختاروا دور البواب السياسي والعسكري للعدوان.
والمستقبل لم يعد سلعة في سوق المساومات الدولية، بعد أن انتقلت صناعة القرار من قصور الرياض وفنادق برلين إلى خنادق الجند المجهولين في ثغور البلاد، وصحيح إنها لا تزال معادلة جديدة يرفضها العالم القديم، أن يصنع المحاصرون بقوة إرادتهم ما عجزت عنه أقوى التحالفات الدولية، وأن يكتب المحاصرون بتضحياتهم دستوراً جديداً للكرامة يصعب على أدبيات السياسة الدولية استيعابه.
إن رسالة هذه التكتلات للشعب اليمني واضحة: أنهم يخبرونه أن حريته واستقلاله ليسا إلا أوهاماً، وأن الخيار الوحيد هو العودة إلى حضن «الشرعية الدولية»، لكن اليمن الجديد يرد بصواريخ باليستية وقوارب مشحونة بالإرادة، برسالة واحدة: لقد انتهى زمن الوصاية إلى غير رجعة.
ستفشل برلين كما فشلت الرياض وكل العواصم من قبل، لأنها تتعامل مع اليمن كملف سياسي قابل للتسوية، لا كشعب يمتلك مشروعاً تحررياً وجودياً، إنهم يراهنون على إعادة إنتاج الماضي، بينما يصنع اليمنيون مستقبلاً لا يشبه أي شيء عرفته المنطقة من قبل.
فليعلم الجميع: اليمن الذي كان يُقسّم في غرف مغلقة، مات إلى الأبد. واليمن الجديد لا يُقهر، لأنه تعلم أن قوته هي في اعتماده على الله وعلى نفسه، وأن نصرَه في تمسكه بحقه، إنها معركة إرادات بين إرادة شعب يؤمن بأن الحق قوة، وإرادة إمبراطوريات تعتقد أن القوة حق.. والله هو الحق وجنده هم الغالبون، والعاقبة للمتقين.