كتبت مطلع عامنا هذا في هذه اليوميات – نشر في يناير 2025م مقالا بعنوان «غزة بين فكي المؤامرة الدولية «، وورد في سياقه أن « فكرة توطين سكان قطاع غزة في سيناء وفي الضفة الغربية مشروع صهيوني معلن ضمن خطط واستراتيجيات صهيونية وأمريكية، وليس فكرة طارئة أملتها نتائج الحرب على قطاع غزة، ولذلك كانت إسرائيل تنتهج فكرة الأرض المحروقة، فقد دمرت كل شيء في غزة ولم تبق ولم تذر، حتى تصبح غزة مكانا غير قابل للعيش, لفناء مقومات الحياة فيها، من مساكن، وخدمات، وغيرها من مقومات الحياة، فقد أصبحت غزة أرضا صفصفا تنعق فيها الغربان، ومؤشرات الواقع السياسي تقول إن اليهود مستمرون في معركتهم حتى بلوغ الأهداف التي رسمتها الاستراتيجيات, ولم يكن ترامب سوى الصوت الذي يقفز إلى النتائج بدون مقدماتها المنطقية التي نقرأ بعض تفاصيلها في المواقف المتباينة من تصريحات ترامب « .
اليوم وبعد ثمانية أشهر من نشر المقال، نقرأ في تفاصيل الواقع في حرب إبادة جماعية يرتكبها اليهود وحرب تدمير للأبراج السكنية ولمقومات الحياة وحرب تهجير قسري للجماعات والأفراد من قطاع غزة، وكل محاولات الوساطة القطرية والمصرية، ليست سوى خداع يذر الرماد على العيون وسياسة استهلاك إعلامي لا أكثر من ذلك، وجاءت قمة الدوحة التي لم تكن نتائجها سوى ذات المنهج القديم وربما كانت غطاء لمشروع قادم تشترك فيه فرنسا لأول مرة وهو خطة الدفاع المشترك عن أمن البحر الأحمر، والهدف من وراء ذلك هو ثني القوة التي تهدد أمن إسرائيل وتهدد كيانها وتهدد مشروع قناة بن غوريون في المستقبل، وهذه القوة هي القوة الوحيدة التي تقف في وجه إسرائيل وقوى الشر العالمي وهي البازغة من بين ركام الأحداث والدمار في اليمن .
اليمن اليوم بقوتها الصادمة للمجتمع الدولي وبقدرتها على امتلاك أسلحة حديثة ومتطورة، استطاعت أن تدافع عن كرامة الأمة، وعن شرف الأمة، وعن وجود الأمة، ولم تستطع إسرائيل ولا أمريكا ولا بريطانيا الحد منها ومن تأثيرها، فسارعت بريطانيا إلى تدريب قوة بحرية يمنية محسوبة على طرف المرتزقة وتوفير كامل المعدات الصلبة والتدريب على المهارات الفنية واللوجستية والقتالية لغرض السيطرة على الشريط الساحلي اليمني كله والسيطرة على المنافذ البحرية والجزر والموانئ البحرية اليمنية، وإسرائيل تعمل اليوم على ضرب البنية الاقتصادية والخدمية لليمن وتدمير مقومات الحياة في المناطق الواقعة تحت سلطة المجلس السياسي الأعلى بصنعاء، وثمة خطاب إعلامي مكثف في كل القنوات وفي شبكات التواصل الاجتماعي فضلا عن توظيف المؤثرين ومشاهير التواصل الاجتماعي في الترويج وتفنيد موقف صنعاء من القضية الفلسطينية وموقفها المساند والداعم لغزة عسكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وبحيث تنشأ قوة غاضبة داخل المجتمع اليمني بسبب الضغط الإعلامي تعمل على توسيع دائرة الاحتجاج والرفض، وصولا إلى التنازع والفشل وربما يساهم في ذلك بعض الحمقى من الغلاة بحسن نية أو بسوء نية وبالتالي يحدث الشرخ والفصل بين القيادة والمجتمع، فالحرب الناعمة هي أشد وطأة على المجتمع من وقع الحسام المهند، ومن صواريخ العدو على مقدرات اليمن وبناه الأساسية، ولم يكن استهداف ميناء الحديدة – الاستهداف الأخير – سوى بداية مرحلة جديدة ربما تساهم فيها فرنسا بعمليات عسكرية واسعة بعد أن كانت تراقب الوضع من بعيد، فالمصلحة المرتقبة من أمن البحر الأحمر هي مصلحة دولية، وقد تم الإعلان في سالف الأيام عن قوة خاصة لأمن البحر الأحمر برعاية سعودية وبريطانية، وربما هذا الإعلان يختلف عن إعلان مماثل رفضت السعودية المساهمة فيه، لكنها اليوم تدخل مجبرة في تحالف جديد بهدف ترتيب المنطقة وإعادة تعريف التحالفات والمصالح الدولية في المنطقة العربية .
العدوان على قطاع غزة مستمر ولم يتوقف، ولن يتوقف حتى يبلغ غايته، وغايته هو السيطرة على القطاع بشكل كلي وتهجير سكانه بشكل كامل، وبالتالي الشروع في تنفيذ مشروع قناة بن غوريون الذي تتعاضد فيه كل القوى العالمية الفاعلة، وتتداخل في مصالحه المستقبلية، وهدف التحالف الدولي لأمن البحر الأحمر هو فرض شروط القوة للخضوع والتعامل مع الواقع في اليمن باعتبارها الجبهة المقاومة والفاعلة التي تعمل ضد المشروع، وربما تنشيط العلميات العسكرية الداخلية في الجبهات.
اليوم إسرائيل تحرق غزة وتحيلها إلى ركام بائد وتتعقب قادة الرفض في كل العواصم العربية وتغتالهم بدم بارد وقد شاهدنا موقف العرب المتخاذل في قمة الدوحة البائسة، وهي قمة عقدت بسبب عدوان إسرائيل على الدوحة ولم تعقد بسبب غزة التي خذلها العرب والمسلمون عدا اليمن التي رغم الجراح النازفة وقوة التدمير التي لحقتها من التحالف العربي من قبل، واليوم تتعرض للدمار بسبب موقفها المساند للغزة، هذا الموقف هو الموقف الوحيد الذي يقاوم الصلف الصهيوني والصلف العالمي وما سواه خذلان مبين يساهم في الفناء وفي تمكين اليهود من حلمهم في دولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات، ولعل الضمير يقطر دما وهو يرى المشاهد المتداولة من غزة للشهداء والنازحين والجائعين، لكنه لا يلامس نخوة المعتصم سوى في اليمن.