الصفاء الروحي والفكري ينبثق من التأمل في الحياة

في العدد الماضي وفقنا الله وفتحنا نوافذ التأمل وبدأنا بنافذة من نوافذه من خلال الوقوف مع آية من كتاب الله تعالى تبين منهجية التأمل وثمرته , وفي هذا العدد نلج إلى نافذة أخرى وآية أخرى في هذا المجال الرحب من مجالات الإحياء والتي تأسس لمجتمع ناهض حي يملك زمام أمره , و ذلك يبدأ بمتلاك غذاء فكره ورحة وبدنه.
إن الحياة لا تصفو للمؤمن من شوائبها وأدرانها, إلا إذا فر من الأجواء المغلقة المحصورة في محيط حياته ومشاغله وهمومه وعلائقه , إلى فيض الوجود الكبير يجول ويسيح بخياله وفكره مقلباٍ بصره في كل أرجائه متأملاٍ لعظيم هذا الصنع والإبداع في الكون , يعصر فكره في دقائقه وأسراره متذوقاٍ جماله الفياض ومشتماٍ عبيره الزاكي وأريجه الفواح , متعرفا على مبدعه وفاطره , فالجمال يشع فيه ويكسوه فهو كون جميل بكل ما تحمله هذه الكلمة جميل في تناغمه وتناسقه وانتظامه وإحكامه جميل في إيحائه , واختلاف كل آية فيه , إنه يدل على عظمة وصفات خالقه و قدرته المطلق , وحكمته العظيمة , التي تضع الشيء في موضعه والتأمل الحي يكفل لك كل ذلك , فالتأمل الحي وحده الكفيل بإذهاب هموم المسلم وإخراجه من دائرة الضيق في هذه الحياة التأمل وحده الكفيل بتحرير الإنسان من التوافه التي تشغـل الغالبية العظمى من البشر لأنهم يوم يرون عظمة هذا الكون تصغر في نظرهم الدنيا بأسرها ناهيك عن التوافه التي تقض مضاجعهم وتؤرقهم ليلاٍ ونهاراٍ وتقلقهم تارة وتفرحهم تارةٍ أخرى فينسون أنفسهم وغايتهم التي خلقوا من أجلها .
إن التأمل مصدر أساسي في تقوية الإيمان , وتزكية النفس , وتحسن الأخلاق , ومصدر من مصادر الإبداع , والنهوض بالتكاليف الثقيلة في هذه الحياة , فهو يمد المتأمل بطاقة لا تقل عن طاقة قيام الليل التي تقيل العبد في النهار وتعينه على تحمل القول الثقيل أي الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
التأمل يحقق الذكر الدائم للقلب والفكر وللسان ويبعث على الجد والعمل ولا يكون الذكر العقلي والقلبي إلا بالتأمل والتفكر في ملكوت الله الواسع ولا يمكن أن يكون المسلم ذاكراٍ لله كثيراٍ إلا إذا غلب عليه هذا النوع من الذكر .
إن التأمل و التفكر في مخلوقات الله هو الموصل الحقيقي لمعرفة المكون بالدليل العقلي والتذوق الوجداني . التأمل الحي في الكون يجعل قلب المؤمن في ربيع دائم وسعادة غامرة ولذة فكرية فريدة لا يجدها إلا في هذا الباب.
إن الظواهر والمشاهدات لا تمر على أولي النهى وأصحاب القلوب الحية من أهل البصائر مرور الكرام ولكن لهم في كل آية يرونها عبرة وفكرة وخطرة ومعنى º ولذلك فهم في علم ومعرفة دائمة , تصاحبهم اليقظة والبصيرة لا انفكاك لها ومن حصل لـه ذلك كان من العارفين بالله تعالى ومن الربانيين المدركين لسننه وحكمته.
لنقف مع نافذة انبثاق الحياة من الموت في هذه الآية { إنِ اللِهِ فِالقْ الúحِب وِالنِوِى يْخúرجْ الúحِيِ منú الúمِيت وِمْخúرجْ الúمِيت منú الúحِي ذِلكْمú اللِهْ فِأِنِا تْؤúفِكْونِ }(95)الأنعام ¿ “
ماذا قال بعض أهل العلم ¿.
قال السدي:”إن الله فالق الحب والنوى”””: ففالق الحب عن السنبلة وفالق النواة عن النخلة” .يقول القرطبي”: . الفلق: الشق أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر وكذلك الحبة , وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي.وقال ابن عباس والضحاك يخرج البشر الحي من النطفة الميتة والنطفة الميتة من البشر الحي”
قال طنطاوي :” أن الله وحده هو الذي يشق الحبة اليابسة كالحنطة فيخرج منها النبات الأخضر النامي ويشق النواة الصلبة فيخرج منها النخلة والشجرة النامية وفى ذلك أكبر دلالة على قدرة الله التي لا تحد وعلى أنه هو المستحق للعبادة لا غيره . وقال: الإمام الرازي “فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة واعرف كيفية خلقه تلك العروق والأوتار فيها ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية فحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال تعالى: { وِإن تِعْدْواú نعúمِتِ الله لاِ تْحúصْوهِا } وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقه تلك الورقة من الحبة والنواة”
لولاك ما نـضجت عنـاقـيـد الجـنـى
ولمــِـــــا تـفـجـر في الـصـخـور غـديـر
والجـدول الـرقراق يمشـي ضاحـكـا
وعـلـى الـسـهول بشـاشـةَ وسرورْ
وسـنـابـل الـوديـان تحـنـي رأسـهـــا
وعـيـون وجـه المـعـصـرات مـطـيـــــرْ
وقال سيد قطب :” إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد º فضلا على أن يملك صنعها أحد ! معجزة الحياة نشأة وحركة . . وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة والحياة الكامنة في الحبة والنواة النامية في النبتة والشجرة سر مكنون لا يعلم حقيقته إلا الله º ولا يعلم مصدره إلا الله . . وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها. .تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول تدرك الوظيفة والمظهر وتجهل المصدر والجوهر والحياة ماضية في طريقها والمعجزة تقع في كل لحظة !!! ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت فقد كان هذا الكون – أو على الأقل كانت هذه الأرض – ولم يكن هناك حياة . . ثم كانت الحياة . . أخرجها الله من الموات . . كيف ¿ لا ندري ! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت º فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة – عن طريق الأحياء – إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية º وتتحول – وأصلها ذرات ميتة – إلى خلايا حية . . والعكس كذلك . . ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة º إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة !{يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي}ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك . . لا يقدر إلا الله أن ينشىء الحياة منذ البدء من الموات ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة . . في دورة لم يعلم أحد يقينا بعد متى بدأت ولا كيف تتم . . وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات !!!

قد يعجبك ايضا