كثيراً ما ينظر إلى العالم الغربي على أنه قمة التطور الإنساني ومنارة التقدم العلمي والتكنولوجي. يُبجَّل في الإعلام كرمز للرقي الحضاري، بينما الحقيقة التي تُخفيها هذه الصورة المزعومة هي تاريخ مظلم مليء بالانتهاكات والقهر والاستبداد للشعوب.
لقد أسس الغرب حضارته على أنقاض الشعوب المضطهدة واستغل مواردها وثرواتها، واستمر في فرض هيمنته على العالم بوسائل تتناقض مع المبادئ الإنسانية التي يتغنى بها. ما يبدو عليه من قوة وعظمة ليس إلا وهماً يخفي وراءه تاريخاً حافلاً بالقهر والدمار. مجده المصطنع لم يُبنَ إلا على أشلاء الضحايا وصوت الأنين المكتوم لأولئك الذين جُرّدوا من حريتهم وحقوقهم. وبينما تتغنى بقيم الحرية والمساواة، نجد في الواقع أنه لا يعيش إلا على نقيض تلك القيم. a
في فلسطين، تتجلى أمام العالم صورة مشوهة يتصدرها الغرب، حيث يظهر اليد سخية تمد العون للاحتلال الإسرائيلي. ذلك العون لا يتمثل في دعم عابر أو مساعدة بسيطة، بل يأتي في صورة تدفقات مالية سخية وتسليح متواصل يمكِّن إسرائيل من انتزاع أرض عربية كانت يوماً موطناً آمناً لأصحابها، وكأن التاريخ يُعاد كتابته ليصبح المحتلّ صاحب الأرض، بينما يُقتلع الفلسطيني من جذوره العميقة، مجبراً على ترك ما تبقى من تراثه وهويته.
الغرب، الذي يدعي أنه الحارس للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، يتحول إلى مظلة واسعة تتيح لهذا الاحتلال ممارسة أفظع الجرائم بحق شعب أعزل. تحت تلك المظلة، تُدمر المنازل بأهلها، وتتحول إلى قبور جماعية لعائلات بأكملها. تتعالى أصوات القذائف لتُخرس أصوات الحياة في المستشفيات والمدارس، وكأن كل حجر أو جدار فلسطيني هو عدو يجب القضاء عليه.
وفي مشهد المفارقة، يقف العالم متردداً، يراقب بعيون باردة ما يحدث، وكأن الدم الفلسطيني ليس له ذات الوزن أو القيمة. فبينما تُدمر بيوت الفلسطينيين، تُبنى المستوطنات، وبينما تمزق القذائف جسد الأرض، يستمر الدعم الغربي للكيان الإسرائيلي، حتى باتت حياة الفلسطينيين ليست سوى ومضات بين قصف وآخر، بين دمعة ودم.
وفي لبنان، يتواصل الاحتلال الصهيوني، متكئاً على دعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ليعيد إنتاج مشاهد العدوان والتدمير بصورة رتيبة تتكرر دون وازع أو ضمير. احتلال لا يفرق بين مدينة مزدهرة نابضة بالحياة أو قرية تنعم بالهدوء، ولا بين شيخ أرهقته الأيام ووهنت عزيمته، أو طفل لم يلامس الأرض بعد بقدميه البريئتين. وما نشهده اليوم ليس سوى فصل جديد من الألم والمعاناة، رواية قديمة لا تكتبها قوى الغرب بمداد من دماء، وما زالت مستمرة في كتابة صفحاتها المظلمة.
ولم تكن الجرائم الغربية مقتصرة على فلسطين ولبنان وحدهما؛ بل إنها تأتي ضمن مشروع استعماري مترامي الأطراف يستهدف العالم العربي والإسلامي برمته. فمن الصومال إلى أفغانستان، ومن العراق إلى سوريا وليبيا، وحتى اليمن، يبقى التاريخ شاهداً على حقبة طويلة من المعاناة، حيث تتوالى صفحات الدمار والخسائر. وكأنما هذا المشروع الاستعماري يسعى لتحويل المنطقة إلى ركام من الخراب المتواصل، مدعوماً بأساليب متعددة ومتوحشة.
لم تتجسد هذه الممارسات العدوانية في الحروب والصواريخ والقنابل فقط؛ بل امتدت لتشمل أسلحة من نوع آخر، لا تقل ضراوة وخطورة، وهي العقوبات الاقتصادية التي تستهدف شريان الحياة ذاته. هذه العقوبات، التي تبدو للوهلة الأولى موجهة للأنظمة السياسية، سرعان ما تتحول إلى خنجر في خاصرة الشعوب، فتضرب بيوت الآمنين وتقلب حياتهم رأساً على عقب، لتتحول حياتهم إلى كفاح يومي من أجل البقاء. وكأن العالم العربي والإسلامي يعيش بين شقي الرحى، حيث تختلط السياسات الاستعمارية بالهيمنة الاقتصادية لتخلق واقعاً من الظلم المستدام، مفعم بالحسرة والدموع، وكأنما الغرب بقيادة الولايات المتحدة، قد نصب نفسه قاضياً وجلاداً في آنٍ واحد.
ذلك الغرب الذي يرفع شعارات الإنسانية وحقوق الإنسان، ليس إلا قناعاً يخفي خلفه تاريخاً طويلاً من القمع والإبادة. وجهه الذي يدّعي نضارته ما هو إلا ستار يخفي بشاعة حقيقية، يحاول أن يغسله بماء الدعاية الإعلامية، لكنه لا يستطيع أن يمحو آثار الدماء التي التصقت به.
ولقد شهد العالم على وحشية هذا الغرب في مناسبات لا تحصى. فمن التطهير العرقي لقبائل الأونداجو، الموهوك، والشيروكي، واحتلال فيما يُعرف اليوم بالأمريكيتين، وصولاً إلى قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب العالم، كقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية، وجرائم الاستعمار في العالم العربي، بالإضافة إلى ما تعرضت له القارة الإفريقية على مدى قرون من حملات استعمارية غربية، نرى صورة واضحة للوجه الآخر لهذا الغرب.
وما يزيد المأساة أن هذه القوى الغربية تُظهر نفسها كحاملة لواء التمدن والتقدم، تشرّع القوانين الدولية لتدين الضعفاء، لكنها تستثني نفسها من المساءلة كلما ارتكبت مذابح جماعية. إنها منظومة استعمارية لا تنتمي إلى زمن الإنسانية أو القيم الحقيقية، بل تستمد قوتها من خراب العالم. بقاءها في نظر حكوماتها يعتمد على إشعال الحروب وسحق أي مقاومة تسعى للحرية والكرامة.
هكذا يبقى التاريخ ماثلاً أمامنا، ليس كقصة ماضية تنسى، بل كمرآة تعكس تناقضات السياسة الغربية؛ حيث تدفن المبادئ تحت أنقاض المصالح، وتمحى الإنسانية بوقع البوارج والدبابات والطائرات.
لكن، ورغم كل هذه الجرائم والفظائع، تظل الإرادة الإنسانية حاضرة، فهي السلاح الأخير لمن فقدوا كل شيء. والإرادة في النهاية لا تقصف.
Prev Post