اليمن وفلسطين.. غزة وصنعاء

طاهر محمد الجنيد

 

 

اتحدت المعاناة واتفق الأسلوب والقائمون عليه، فالمعاناة تكمن في الحصار والتجويع وشن الحروب وتدمير البنى التحتية والمؤسسات الرسمية، واستهداف الأبرياء أطفالاً ونساءً وشيوخاً وغيرهم من الفئات التي يريد العدو إحداث أكبر قدر من المآسي والآلام، أما الأسلوب فيتعدد إما بشن الحرب الاقتصادية على مصادر الثروة والقوة أو بواسطة الحرب العسكرية واستخدام أفتك وأقذر الأسلحة المحرمة وغيرها، لإدراكهم أن وجود الغطاء السياسي يحول دون معاقبتهم ومساءلتهم، وتأتي الحرب الناعمة لهدم القيم والأخلاق والمبادئ وشغل الناس بالتوافه والهامشيات من أجل التحكم والسيطرة على الساحة السياسية، والانتفاع بالثروات والاستئثار بها من غير حسيب ولا رقيب.
وسط كل تلك الأحداث نجد أن رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) شخص الحالة التي نعيشها وحدد الدواء، حيث قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) حديث صحيح متواتر رواه الترمذي وصحيح مسلم، والجامع الصغير، هذا الحديث ورد بروايات متعددة، فقد أكد على أن الأكثرية قد تختار غير الحق ولم يبق سوى طائفة قليلة، لكن هذه الطائفة “ظاهرين على الحق” دون غيرهم، ورغم ذلك فإن الخذلان والتقاعس عن نصرة الحق لا يضرهم، بل هو ضرر لمن قام به، فالحق هو الأساس الذي يجب أن يتبع ولا يخذل ومن يخذله يضر نفسه، وخير مثال على ذلك تخاذل اليوم في نصرة القضية الفلسطينية وإيجاد المبررات والذرائع لهذا الخذلان، سواء مبررات دينية (فتاوى وآراء)، أو خذلان إمداد ومعونة ومواقف سياسية وغيرها، فالمعونات التي تصل يتم احتجازها في المعابر ولا يسمح بدخولها عمداً من أجل إحداث المجاعة للصابرين المرابطين على أرض غزة وفلسطين، وما يتم إدخاله سوى الاكفان وغيرها من لوازم إكمال المهمة التي يقوم بها المجرمون، وفي المواقف السياسية وجدنا إجماعاً عربياً على إدانة الضحية وليس المجرم أو الجلاد الذي يرتكب أبشع أنواع الإجرام على مسمع ومرأى العالم وتحت ناظره.
وأما القائمون على هذا الإجرام فنجد حلفاً شتيتاً يجمع بين النقائض لم يسبق له مثيل، فهو حلف يهودي، صليبي، إلى جانب ذلك المنافقون والخونة والعملاء من أبناء الأمة المحمدية ومن اللسان العربي المبين، منهم من يتحرك بنفسه وسلاحه وماله، ومنهم من يوجد الغطاء السياسي، ومنهم من يتحرك بلسانه وقلمه، في تكامل وتوزيع للأدوار لا يخفى على أحد.
غزة اليوم شامخة عصية على المجرمين واليمن أيضاً تمارسان واجب الوقوف على الحق والبعد عن الخذلان، وقبل ذلك فلسطين، وهناك أحرار من الداعمين لهذه المواقف، بينما الكثرة الغالبة اتجهت لتحقيق نبوءة الحبيب المصطفى (صلوات الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى، ومثل ذلك هو الوصف الصحيح الذي أكده القرآن الكريم حيث قال تعالى: ﴿وَلَمّا رَأَى المُؤمِنونَ الأَحزابَ قالوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَما زادَهُم إِلّا إيمانًا وَتَسليمًا﴾ الأحزاب (22)، وفي شأن حلف اليهود والنصارى، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الَّذينَ ظاهَروهُم مِن أَهلِ الكِتابِ مِن صَياصيهِم وَقَذَفَ في قُلوبِهِمُ الرُّعبَ فَريقًا تَقتُلونَ وَتَأسِرونَ فَريقًا﴾ الأحزاب (26)، وفي وصف الفئة المؤمنة، قال تعالى: ﴿إِذ جاءوكُم مِن فَوقِكُم وَمِن أَسفَلَ مِنكُم وَإِذ زاغَتِ الأَبصارُ وَبَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللَّهِ الظُّنونا﴾ الأحزاب (10)، إذاً موقف الخذلان قائم ومعلوم وموقف النصرة والتأييد كذلك وموقف الإجرام أيضاً، ورغم أن الحديث السابق جاء بروايات تدل على مكان المواجهة وأنها ستكون على أبواب دمشق ومن حولها وعلى أبواب بيت المقدس، كما جاء في السلسلة الضعيفة برقم (5419) ( لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)، قالوا عنه (ضعيف بهذا السياق) والرواية الثانية (ضعيف بهذا اللفظ)، كما جاء في فضائل أهل الشام للربعي ومناقب الشام وأهله لشيخ الإسلام ابن تيمية: ( إذا هلك الشام فلا خير في أمتي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يقاتلون الدجال) والصحيح عن شعبة عن معاوية بره مرفوعا (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)، فرغم الخذلان، إلا أن الحديثين يؤكدان أنهم “ظاهرين” على الحق إلى أن تقوم الساعة وأيضاً “منصورين”، فالنصر والغلبة لهم رغم الإمكانيات التي يمتلكها المجرمون والمخذولون في مساعدتهم على الوقوف أمام الحق.
لقد حاول المجرمون بكل قوتهم أن يحطموا إرادة الصمود والمقاومة في نفوس الأمة العربية والإسلامية من خلال نشر الفرقة والشقاق، وبذر الخلافات بكل أشكالها وأنواعها، إلا أن ذلك لم يفلح، فما زال هناك من يتمسك بالوحدة والألفة ويقاوم كل جهد فاسد يريد تحطيم أساسات التوحد والوحدة.
إن ما يقوم به رجال غزة واليمن هو دفاع عن هوية أمة ووجودها وكيانها المادي والمعنوي من الانهيار والسقوط تحت معاول الإجرام الذي يريد أن يقضي على تاريخ وحضارة إنسانية أنارت الدنيا، وقدمت العدالة والإنسانية والحرية والعزة والكرامة لكل البشر دون النظر إلى لون أو جنس، بخلاف ما يقال إنه حضارة اليوم التي قدمت القتل والإجرام والإبادة للآخرين الذين لا يتفقون معها في اللغة والدين وحتى الجنس واللون، مما يدل على أن انفصال الأقوال عن الأفعال وممارسة الكذب والدجل وفق نظرة أحادية، وكأننا بحديث المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأعور الدجال أو المسيخ الدجال أعور العين هي أبرز الصفات له، وبينما يتمسك المفسرون بحرفية النص فيقولون إن المسيح الدجال لا بد أن يكون أعور العين، إلا أن الحديث يشمل أيضاً النظرة الأحادية التي لا ترى سوى نفسها وتنكر ما دونها مما يعد عوراً في التعامل والتفكير والسلوك، وهو الأمر الذي يمارس اليوم في كل وسائل الإعلام والسياسة والاقتصاد وحتى الحروب، حيث نجد أن الإجرام مبرر ودفاع عن النفس، بينما تشريد شعب وإبادة أهله لا يمثل شيئاً، وهو ما قاله الناطق باسم البيت الأبيض إن الشهداء من الأطفال والنساء والعاجزين المغدور بهم على أرض غزة لا يمثل شيئاً، وأن الكيان الصهيوني لم يقتل مدنياً واحداً، وكأنه لا يكفي أن يتعدى الشهداء ثلاثين ألفاً وأكثر من ضعفه من الجرحى والمفقودين.

قد يعجبك ايضا