بمعزل عن رغبات العدو وحلفائه، وبعيداً عن التخاذل العربي والإسلامي، وبالرغم من هذا الصمت المريب الذي يقابل المجازر الصهيونية وحرب الإبادة التي تجري بحق أبناء فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة، فإن ثمة أساطير تنسف بحضورها قتامة الانهزام وبشاعة الإجرام وتخاذل المتخاذلين، أساطير يكتبها ميدانيا أبطال شاء القدر أن يكونوا حاملي شعلة الكرامة في ليل الانهزام العربي، أبطال يسطرون بإرادتهم الفولاذية ملاحم وبطولات تعيد للوجود العربي آلقه وللمجد الإسلامي مكانته في سفر الخلود، وكأن غزة اليوم تجتر مآثر ( حطين) وتستمد من ( كربلاء الحسين) فاتحة الانتصار الذي يتشكل بدماء الأحرار وتخطه ( محابر الشرايين) حروفا مرتلة تتلوها حناجر رجال صدقوا، فكان صدقهم دليلهم في نسج سمفونيات الأساطير الاستثنائية في عالم صار تخاذله أكثر من استثنائي، ووحشيته أيضا وانهيار منظومته الأخلاقية.
(غزة) قطعة من أمة وجزء من فلسطين الأرض والقضية والثورة الرافضة للخفوت والانكسار ،والمقاومة التي لم يكن منها بد أمام عدو مدجج بأدوات الموت وثقافة الانحطاط والعنصرية الاستيطانية ومحروس ببوارج وأساطيل أمريكا والغرب ونفوذهم، وبتخاذل حد التواطو من الأخ القريب والصديق البعيد، المتوجسين خوفا ورهبة من غضب أمريكا، فكانت ( غزة) ببطولاتها الأسطورية ليس لتقرع أجراس الوعي بل لتذكير الغافلين بأن الحق فوق القوة، وأن لسكون التاريخ نهاية وأن لكل ليل طويل فجرا يتنفس بهاء وحرية وحياة.
في( غزة) تنتصر (أنفاق الصمود) المبهمة على جحافل المتغطرسين رغم ضخامة آلة الموت التي يمتلكها غربان الشر وداعميهم، وفي غزة تسطر ملاحم لأبطال سلاحهم الفتاك إيمانهم بحقهم وإرادتهم في انتزاع هذا الحق من بين مخالب مغتصبيه..؟!
جحافل من الغربان يعجزون عن فرض خياراتهم، رغم الموت والجوع والحصار والحرمان من أبسط مقومات الحياة مثل الماء والكهرباء والطعام والأدوية، في منازلة سبقها حصار محكم لسنوات، نعم حصار فرض لسنوات، وكان يفترض وبعد وحشية هذا الصراع أن تكون مهمة الغربان في غزة عبارة عن جولة سياحية، كيف لا وهم مسلحون برعاية أمريكا والغرب، وبأسلحة متطورة هي الأحدث عالميا وجيش مسخر له أجهزة الأقمار الصناعية والمخابرات والخبرات اللوجستية من أمريكا وبريطانيا وبقية المنظومة الغربية ذات الموروث الاستعماري البغيض، ومع كل هذه القدرات يبدو الغازي أضعف وأكثر جبنا وترددا أمام دماء شعب أعتبرها مكرها جزءا من سلاح مقاومته دفاعا عن حق، عودته بدون تضحيات، يعد فعلاً من وهم وحلماً طوباوياً عصياً على التحقيق..
إن في غزة رجالٌ استثنائيين، رجال لم يكن عدوهم يتوقع قوتهم متوهما أن مقولة أوائلهم، أي مؤسسي كيانهم اللقيط عن شعب فلسطين الذين قالوا ( سنقتل الكبار ونهجرهم، وسينسون الصغار الحكاية) ولكن للأسف لم تتحقق نبوءة الصهاينة الأوائل، فالكبار الذين استشهدوا زرعوا في جينات أطفالهم خارطة فلسطين ومقدساتها وأسماء المدن والكفور والضياع والقرى وأشجار الزيتون وجداول المياه.
فنشأ الأطفال عشاقا لفلسطين كل فلسطين بكل تفاصيلها وجغرافيتها وأحداثها ومسارها التاريخي، فيما من هجّروا لايزالون يحملون مفاتيح الدور التي أجبروا على مغادرتها يتذكرون جيدا تفاصيل الأمكنة التي هُجروا منها بكل تفاصيلها..!
إنه الرجل الاستثنائي هذا العربي الفلسطيني الذي أبهر العالم عبر تاريخه النضالي، ألم يصفهم المتخاذلون من أتباع النبي موسى عليه السلام بأنهم ( جبارين) وهم كذلك جبارين، فيما أحفاد أولئك المتخاذلين يزدادون جبنا وتخاذلا وإن اصطف الكون إلى جانبهم ونصرتهم يظل الخوف المتوارث في جيناتهم ميزة تميزهم عن باقي البشر، وأسوأ البشر وأبشع المجرمين هم الجبناء إذا أمتلكوا أدوات القوة، وهذا هو حال الصهاينة اليوم عنوان “التوحش والمكر وصناع الخداع والكذب والتضليل” ولكنهم يواجهون اليوم جيلا فلسطينيا غير الجيل أو الأجيال الذين عرفهم الصهاينة من قبل، مع أن الصهاينة قطعا لن ينسوا مطلقا أسماء مثل أبو عمار، وأبو أياد، وأبو جهاد، ووديع حداد، وأبو حسن سلامة، وأبو الهول، وسعد صائل، وحواتمة، وحبش، وأبو علاء، وأحمد ياسين، والرنتيسي، ويحيى عياش، ورمضان شلح، وأبو علي مصطفى، وفتحي الشقاقي، وهناك آلاف الأسماء لأبطال تركوا بصماتهم على تاريخ فلسطين وخارطتها وجغرافيتها وقضيتها..
غير أن جيلاً فلسطينياً ولد من رحم المعاناة وشكلت قناعته جرائم المحتل وغطرسته، وهذا السكون الدولي الذي أنهمكت أطرافه في جدلية الحياة اليومية غير آبهين بكل القيم المتصلة بالسيادة والكرامة والوجود، وهذا السكون هو أحد أسلحة العدو الذي سخر له ماكينة إعلامية جبارة مارست ثقافة كي الوعي على الأمة، غير أن الفلسطيني لم يقع بشباكها، بل ظل متمسكا بحلمه الذي يشكله اليوم، ويرسم ملامحه الأخيرة بالدم والنار.