وأنا أسطر هذه السطور يتبادر إلى ذهني تلك النقوش المسندية التي تركها لنا أجدادنا وهم يتحدثون عن الغزاة الاحبوش وصراعاتهم معهم وعن الأعراب وما جنوه بحق الُدول اليمانيَة قديما .
أكاد أتخيل سفن الحبشة الحربية وهي تمخر عباب البحر الأحمر تقل آلاف الجنود المدججين بأسلحتهم وأرى في مقدمة إحدى تلك السفن أحد أهل اليمن يقف جذلان إلى جانب القايد الحبشي وهو يشير بيده إلى ساحل تهامة ليدل الغزاة إلى أماكن الضعف فيه. وارى أيضا على الساحل بعض اليمانين وهم يترقبون الغزاة في شوق ليرحبوا بهم وليمهدوا لهم الطريق إلى مدن اليمن وحصونه .
لسوف يقنع هذا الخائن نفسه – وكذلك سوف يفعل أصحابه – شأنهم شأن كل خائن في كل زمان ومكان – بصوابية فعلتهم، ولسوف تجد من ينبري ليعتذر لهم عنها .
لعلهم اقنعوا أنفسهم بأن أهلهم في اليمن قد ظلموهم وأقصوهم ولعلهم جادلوا بأنهم قد فرضت عليهم ملة غير ملتهم فاستنصروا أهل ملتهم الاحبوش، ولربما أرضوا عقولهم بأن هؤلاء الغزاة ما هم إلا أبناء عمومتهم اليمانين الذين هجرهم السبئيون إلى ارض الحبش – كما زعموا – ولا جناح عليهم ان استعانوا بهم وأعادوهم إلى ارض الاجداد !!
وأكاد أرى اليمن ضعيفا منهكا : اقيال متناحرون، وشعوب حيرى، ومخاليف ممزقة، وارض يباب وتجارة كاسدة .. ونفوس تمكنت فيها الضغائن !!
***
نحن اليوم في السنة التاسعة من عدوان وغزو وحصار لليمن وأهله. عدوان تقوده أمريكا وإسرائيل ومعهم أعراب جزيرة العرب (وآخرون من دول ومرتزقة)
لقد استباح الغزاة المعتدون أرضنا ودماءنا حتى أعراضنا لم تسلم منهم !
قتلوا وجرحوا عشرات الآلاف، وشردوا ملايين وقضى منا بسبب الحصار عشرات الآلاف وأسروا وعذبوا آلافا ودمرت بيوت ومساجد ومدارس ومستشفيات ومصانع وجسور، ولم تكن مدننا الأثرية ومعالمنا التاريخية بمنأى عن الدمار والقصف
وإذا كنا في محاولتنا معرفة الأسباب التي دفعت الغزاة لغزو اليمن وأسباب خضوع اجزاء منه للغزاة فيما سلف من التاريخ
فإننا اليوم نعرف أسباب هذا العدوان علينا معرفة كافية .
في زماننا عرفنا اليمن دولة تابعة فاقدة لاستقلالها وكرامتها وحريتها وكانت ثرواتنا -وما زالت- تنهب ونحن غرثى نشكو الفقر، وكان الغزاة قد رأوا مخايل دولة تتأهب للنهوض
فتنادوا للعدوان وكل له غاية !
لا تقبل أمريكا ومعها إسرائيل أن تريا دولة قوية مستقلة عند باب المندب جنوب البحر الاحمر. ولقد كان لهم درس في حرب 1973 م حين أغلقت القوات المصرية واليمنية باب المندب في وجه االسفن الإسرائيلية، فكان البحر الأحمر بحيرة عربية. (ليت أهلنا في مصر يفهمون أن قيام دولة يمانية قوية مستقلة ضمان لأمنها القومي)
إن اليمن بشعوبه الكبيرة، وبموقعه وبتاريخه، وبفكره الجديد الواعي بخطر اليهود، لهو صخرة ستصطدم بها الدولة العبرية في جزيرة العرب لا سيما وقد صارت إسرائيل تسرح في الجزيرة جهارا نهارا .
لذا فإننا لا نستبعد أن تكون لليهود يد في التعجيل بغزو اليمن. ولعل الأيام تعزز رأينا هذا .
وأما الأعراب – هؤلاء الطارئون على الحضارة – فقد استفزتهم عقدة النقص! كيف لهم أن يشاهدوا طائر العنقاء ينبعث من تحت الرماد . كيف تتقبل نفوسهم أن ينهض اليمانون لاستعادة دولة حضارية كان الأعراب يعيشون على هامشها، بل على هامش التاريخ كله !
أراد الأعراب إيصال رسالة تقول، إنهم جاءوا للانتقام من حضارة وتاريخ طالما تباهى به اليمانون . فما عسى ينفع تاريخ أمة حاضرها صورة فاقعة من البؤس والضعف؟
ومن عجب أن كان سد مارب القديم – بما يمثله من رمزية حضارية – في مقدمة ما تعرضت له آثارنا من قصف وتخريب، مع انه كان بعيدا عن ساحات القتال ولا مسوغ عسكري لقصفه .
بيد أننا سنعلم أبناءنا في المدارس: “أخرب سد مارب قديما فأر – كما قيل – ثم بعد مئات السنين عاد الأعراب فأخربوه” !
كل هذا نفهمه، لكن ما يعسر علينا فهمه هو مجيئ بعض أهل اليمن في مقدمة قوات الغزاة مقاتلين ومظاهرين وأدلاء .
حتى وإن كنا قد رأينا لهؤلاء أسلافا في التاريخ، لكن معايشة هذه الحقيقة كتجرع أحدنا العلقم .
وثمة فئة أخرى من أهل اليمن كانت وما زالت سببا من اسباب الهزيمة حتى وان لم تكن في الغزاة، وإن لم تحمل سلاحا نعني بهم المتخاذلين أهل الحياد (أخص منهم فئة المثقفين وأصحاب الشهادات العلمية). هؤلاء الذين خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل.
إنَ موقف هؤلاء يؤلمنا – إن كان التخاذل يعد موقفا – كيف يشاهدوننا ونحن نقاتل ونقدم انفسنا واهلينا قتلى وجرحى، وهم وادعون فاكهون?! .
أليست اليمن بلادنا جميعا؟!
السنا اخوتهم؟!
ألا يؤذيهم ما يؤذينا؟!
أليس اليمن العزيز عزة لنا ولهم؟!
وهل ثمة معنى للحياد في صراع الحق والباطل؟!
لقد تخلى المثقفون عن مسؤوليتهم في لحظة تاريخية حاسمة من تاريخ اليمن، وكان العامة أكثر استشعارا لمسؤوليتهم وأنهض من أصحاب الشهادات العلمية .
مثلما نرفض الحياد من غزو اليمن فإننا نرفض السكوت عن قول الحق : نشيد بموقف المدافعين عن اليمن، ولا نجامل في إنكارنا حياد المحايدين، دعك عن الخونة.
لسوف يمن الله بنصره علينا وقد ظهرت بشائره، وحينئذ سيذكر بعضنا بعضا بما جرى وبموقف بعضنا من هذا الغزو .
ما قيمة التاريخ ان لم نستوعبه ونستفد منه؟
وما جدوى دراسته إن لم نتجنب أخطاء أسلافنا؟
أليس في تاريخنا ما يكفي من عبر تحفزنا للدفاع عن بلادنا وأهلنا؟
لكن الواقع – للأسف – يكشف لنا ان لانفع من كل ذلك ان لم نتجرد من العصبية والهوى، وهذان يشكلان جدارا غليظا في وجه التاريخ .
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾
والعاقبة للمتقين .