تجتمع الكلمات ثم تتبعثر، تترتب الأفكار ثم تتناثر، تزدحم العبارات ثم تتفرق، تحضر معاجم اللغة وأمهات الكتب ثم تتوارى، يخفت توهجُّ الشمس ويتضاءل ضوء القمر، تتساقط أوراق الأشجار اليانعة والورود المتفتحة وتنحني هامات الجبال الشامخة، تُطاطئ السماء رأسها في خجل وتكاد أن تدنو فتقبل الأرض، تتبخّرُ المحيطات والبحار، وتجف وتعود إلى باطن الأرض مياه الينابيع والأنهار، وتفتحُ أبوابُ السماء بماءٍ غزيرٍ مُباركٍ مِدرار..
لم أعد أدرِ أهي دموع الاستبشار والفرحة أم زخّاتٌ للتعبير عن الألمِ والفرقة واللهفة؟
لكنني أعلم لماذا اختفى وتوارى كل هؤلاء؟
فمهما استدعيتهم أن هلموا واحضروا، اختفوا حياءً وخجلا وتبعثروا!
وكيف لهم أن يظهروا وقد حضرت ذكرى الشهداء؟!
نعم، إنها الذكرى المجيدة والمناسبة المقدسة التي استمدت عظمتها وقداستها من عظمة وقداسة تلك التضحيات المبهرة والدماء الزاكية الطاهرة،
ها نحن نستقبلها اليوم ونُقرأ الأرواح الطاهرة منّا التحية والسلام، وكل المحبة والتقدير والإكرام..
ها نحن نُسارِع إلى رحابها المقدسة لننهل أجمل معاني التضحية والإيثار ونقف في خشوعٍ وهيبة في مدرسة المكارم والرفعة والقيّم العظيمة السامية بكل إجلالٍ ودهشةٍ وانبهارٍ وإكبار..
ها نحن بين طياتِ هذه الذكرى نسمح لأرواحنا وأنفسنا أن ترتدي أجنحةً من نور وأن ترتفع وتعلو وتُحلق بنا بعيداً بعيداً إلى عالم آخر، عالم رباني، عالم روحاني، عالمٍ لا يضاهيه عالم، إنه عالم النعيم والسعادة، والخلود والزيادة، إنه عالم الأصفياء والأولياء والأنبياء، إنه عالم الشهداء الأحياء، إنه عالم الطمأنينة والبشرى والابتهاج والرضى، وما عند الله خيرٌ وأبقى، من لا يبلغ وصفه الواصفون ولا مدحه المادحون ولو تعاقبت عليهم السنوات والقرون.
ومهما تعاقبت علينا الليالي والأيام سنقوم بإحياء ذكرى ومآثر الماجدين الكرام في أنفسنا ونسمح لها أن تقترب من أرواحنا أكثر كي نقتبس من مدرسة شموخهم وثباتهم وعطاءهم الأسطوري وغير المحدود التي تجعل الإنسان يقف في تعظيم وذهول، فما يكون منه إلا أن يخرّ منحنيا تملأ أركانه الرهبة أمام عزيمتهم وصبرهم وعظمتهم ومعجزاتهم التي يعجز عن وصفها البيان، وبطولاتهم وتضحياتهم التي تضاهي عالم الأساطير وتفوق قصص الخيال لكنها الحقائق والوقائع التي صنعت كل هذا الثبات والصمود الخرافي وسطرت كل تلك البطولات الأشبه بالمعجزات والتي تجف عن توثيقها وسردها أقلام الكرام الكاتبين، والتي لن تنسى ولن تُمحى على مر الأجيال البشرية مهما تعاقبت الدهور والسنون، إنها السر وراء كل ثباتٍ وفخر واعتزاز ونصر، ها نحن نملأ أرواحنا من شذى عبيرها ورونقها ما تتعطر به الأرواح وتزكو النفوس وما تشتحذ به الهمم ونستلهمُ منها ما نزداد به ثباتاً وصموداً وعزماً وإصراراً وعلواً في سماء المجد والمكرمات، ونتزود منها ما يجعلنا نحلق شامخين أُباة فوق المستكبرين والطغاة في فضاء العزة والبطولات، نعم إنها تضحيات الشهداء ودماؤهم الغاليات.
إن تلك الدماء المباركة التي ارتوت منها تربة هذه الأرض الطاهرة هي من صنعت كل هذا الثبات والنصر أمام كل هذه المخاطر والتحديات التي لم تشهدها أمة من قبل والتي لاُتقارن منذ بدء التاريخ، فكأنَّ تلك البطولات والانتصارات الخالدات لم يصنعها مثلنا ولم تخلق لغيرنا على طول مسيرة بني البشر.
ها نحن نباهي ونعرج في سماء المجد ونرتقي على الشعوب والأمم ونحن نفاخر بشهدائنا وعطائهم وننهل من مدرسة قيمهم وتضحياتهم وتضحيات أهلهم وذويّهم وكل من سار على درب فدائهم وبذلهم، ونجدد لهم العهد ولأسرهم التي بذلت أغلى ما لديها بالوفاء لدماء الشهداء وتضحياتهم وبمواصلة دربهم ومسيرهم حتى ننال مجداً وعزاً وصلوا إليه، ونصون مكانةً وكرامةً صنعوها بدمائهم ونحققُ بفضل الله وعونه وكل ما نسطع عليه نصراً وظفراً لا تزال أرواحهم الطاهرة المُحلِّقة في سماء العزة والحرية تهفو إليه.
وصدق الله العظيم القائل: “وكان حقَّاً علينا نصرُ المؤمنين”