الثورة / خليل المعلمي

البردوني أجرأ الشعراء العرب

 

 

مرت علينا الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل الشاعر الكبير عبدالله البردوني، الذي غيبه الموت في الـ31 أغسطس 1999م، بعد رحلة إبداعية وتنويرية طويلة شهد خلالها أحداثاً، مرت بها اليمن خلال عقود القرن العشرين، وولوجه إلى ركب العصر الحديث.
كان الشاعر والمفكر عبدالله البردوني أحد طلائع الشعراء العرب، وكان أيضاً باحثاً اجتماعياً وناقداً وكاتباً متعدد الصفات، ومن خلال إبداعاته ومؤلفاته كانت تتفجر فيه الحياة، وبالرغم من فقده البصر في سن مبكرة، إلاّ أنه استطاع من خلال قصائده أن ينقل الواقعين اليمني والعربي بجوانبهما الحالكة والمضيئة، حيث تخطت شهرته حدود اليمن؛ ليصبح أحد أكبر الشعراء العرب في القرن العشرين، ولا يزال يشكل حالة فريدة من نوعها في اليمن والوطن العربي.
ومع هذا فليس من المبالغة إن يوصف الشاعر والمفكر عبدالله البردوني بالمبدع الكوني، ولن يكون هناك مجافاة للحقيقة، إذ اعتبره الكثير أنه من أهم الكتّاب والمفكرين والمبدعين العالميين.
عبدالله البردوني الذي ولد في قرية “بردون” بمديرية الحداء، نشأ ودرس في مدارس مدينة ذمار، نهل من علومها المختلفة، ثم انتقل إلى العاصمة صنعاء ليواصل دراسته، وفيها امتهن العديد من المهن منها التدريس والمحاماة.
في عمر الخامسة تعرض لمرض الجدري الذي أفقده بصره، ولكنه لم يفقده بصيرته التي ظل يرى بها العالم بطريقته الخاصة، وكانت له آراؤه الخاصة والمستقلة عن الأوضاع المحلية والدولية خلال عقود النصف الثاني من القرن العشرين، وله نبوءاته الخاصة، والتي بدأت تظهر جلياً خلال العشرين عاماً الماضية، صدر له الكثير من المؤلفات الفكرية والدواوين الشعرية.
إن فقد البردوني لبصره لم يحل دون نبوغه الشعري الذي جعله من أبرز الشعراء والأدباء في العالم العربي -منذ سبعينيات القرن الماضي وسمّي بالرائي المبصر- فأشعاره تحكي الواقع بتجرد، كما لم تخل كلماته من نقد لاذع وسخرية مبكية من حال الطبقة السياسية في ذلك الوقت.
ورغم شهرته التي تخطت الحدود لم يسع البردوني لمخالطة ذوي النفوذ، ولم يكن يوما على وفاق مع أصحاب السلطة في اليمن، وإنما عرف بتواضعه وتبنيه هموم المهمشين والمعدمين.
وقد كانت قصيدته “أبو تمام وعروبة اليوم” هي بوابة العبور إلى عالم الشهرة، وفي بعض أبياتها يقول الشاعر الراحل:
حبيبُ وافيتُ من صنعاءَ يحملني
نسرٌ وخلف ضلوعي تلهثُ العربُ
ماذا أحدثُ عن صنعاءَ يا أبتي
مليحةٌ عاشقاها السلُّ والجربُ
يحمل الشاعر والمفكر عبدالله البردوني الصفات الإنسانية والوطنية والكونية بامتياز، فالكتابات الجديدة والقديمة عن إبداعاته وإنجازاته يمكن القول أنها لم تفه حقه، فالكتابة في حضور البردوني هي ضرب من الخيال، وصعبة المنال في نفس الوقت، فما قدمه من إبداعات للفكر وللغة وللإبداع الإنساني عظيم وكبير فالبردوني موسوعة متكاملة في مختلف المجالات، وآثاره لا تزال شاهدة على ذلك في إصداراته المتنوعة الإبداعية والفكرية، وكتاباته الغزيرة والثرية في الصحف والمجلات، وفي برامجه الإذاعية ومقابلاته التلفزيونية.
لم يحظ شخصاً كالشاعر عبدالله البردوني من اهتمام عربي وعالمي، فكان يحل ضيفاً على المنتديات الفكرية والثقافية في العواصم العربية، وتكريماً له فقد تم منحه العديد من الجوائز، منها جائزة أبي تمّام بالموصل عام 1971م، وجائزة شوقي بالقاهرة عام 1981م، وجائزة الأمم المتحدة (اليونسكو) والتي أصدرَت عملةً فضيةً عليها صورتُه في عام 1982م، كمُعوّقٍ تجاوز العجز، وجائزة مهرجان جرش الرابع بالأردن عام 1984م، وجائزة سلطان العويس بالإمارات 1993م.
يعتبره الكثير من المفكرين المرجعية لهم فقد نهل من إبداعاته وأفكاره وأخلاقه الأدباء والمفكرون العرب، من مختلف المشارب والمآرب الفكرية، وأخذ منه السياسيون أفكارهم، وتتلمذ على يده المفكرون والأدباء والمبدعون، وقد تناول الكثير من الباحثين أعماله الإبداعية بالدراسة للحصول على شهادات الماجستير والدكتواره.
وإذا كان البردوني لم ينل الاهتمام والرعاية اللائقين به كمفكر ومبدع كوني من قبل الأنظمة الرسمية، إلا أن مكانته وقدره راسخان في قلوب العامة والخاصة، وفي أفئدة المبدعين والمفكرين اليمنيين والعرب بل وفي بلدان العالم، وتكاد لا تخلو مناسبة هنا أو هناك إلا ويتم ذكره والأخذ بآرائه ووصفه بـ”الرائي المبصر”، تكريماً له وتخليداً لذكراه وإنجازاته وبصيرته وعدم رضوخه لأي عوائق تقف أمامه ليواصل الإبداع حتى آخر يوم من حياته.
ثلاثة وعشرون عاماً منذ أن غادرنا الرائي المبصر عبدالله البردوني، ولم يقدم الجانب الرسمي أي مبادرة لتخليد ذكرى هذا المبدع الكوني، مع أنه كان بالإمكان أن يتم إطلاق اسمه على أحد المعالم الفكرية أو الثقافية أو أحد المراكز العلمية أو البحثية أو حتى إنشاء جامعة باسمه، وكان من السهل أيضاً الاتفاق مع أسرته وتحويل منزله إلى متحف يضم مقتنياته وأعماله، واستكمال طباعة أعماله وغيرها من الأعمال التي تخلد لمثل هذه الشخصيات العظيمة التي تقدم وتعرف بلدها إلى العالم.
لقد ترك البردوني لليمنيين إرثاً فكرياً وثقافياً في الإبداع والثقافة والأدب ستظل تنهل منه الأجيال الحالية والقادمة، كما ترك أثراً طيباً في نفوس أصدقائه ومحبيه وتلامذته والمقربين له.
لقد أصدر البردوني خلال مسيرته الأدبية ثماني دراسات، و12 ديواناً، هي وفق الصدور: “من أرض بلقيس”، “في طريق الفجر”، “مدينة الغد”، “لعيني أم بلقيس”، “السفر إلى الأيام الخضر”، “وجوه دخانية في مرايا الليل”، “زمان بلا نوعية”، “ترجمة رملية لأعراس الغبار”، “كائنات الشوق الآخر”، “رواغ المصابيح”، “جواب العصور”، “رجعة الحكيم بن زائد”. وقد صدرت هذه الأعمال في مجلدين عن الهيئة العامة للكتاب عام 2002م، ثم أعيد طباعتها مراراً.
ومن مؤلفاته الفكرية: “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه”، “قضايا يمنية”، “فنون الأدب الشعبي في اليمن”، “اليمن الجمهوري”، “الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية”، “الثقافة والثورة”، “من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري وحياته”، “أشتات”.
كما صدر للبردّوني مؤخراً ديوانا “رحلة ابن من شاب قرناها”، و”العشق على مرافئ القمر” وكذلك كتاب “مستطرف البردوني المعاصر” وهو عبارة عن مقالات نشرها الشاعر الراحل في فترة التسعينيات في صحيفة الوحدة الأسبوعية.
على اليمنيين أن يتذكروا المواقف الوطنية لهذه القامة الإبداعية والوطنية والفكرية تجاه وطنه، ووقوفه مع الحق وضد الظلم، وكان بشهادة الكثير “أجرأ الشعراء العرب”، كما كان له مواقف نبيلة تجاه أصدقائه وتلامذته وتجاه المبدعين، وعلى ذلك لابد من المضي على خطاه والاستزادة من علمه وإبداعاته وتقديمه للأجيال الجديدة كشخصية وطنية فكرية عظيمة، قدمت الكثير والكثير لليمن ولليمنيين.

قد يعجبك ايضا