العمل الفني كمقذوف ناري

والتر بنيامين
إن إحدى أهم وظائف الفن منذ القدم هي طرحه لمسألة لم تحن بعد ساعة تقبلöها كليا. وفي تاريخ كل شكل من أشكال الفن أوقات عصيبة يطمح فيها ذلك الشكل إلى إحداث تأثيرات ليس لها أن تنشأ إلا في مستوى تقني متغير وهذا يعني في شكل فني جديد. إن أشكالا فنية من ذلك النوع الخانع لاسيما التي نشأت في ما يسمى بعصور الانحطاط كـ Extravaganz وKrudit?t هي في الحقيقة نابعة من أغنى قوة تأريخية لها. لقد انتهى المطاف بالدادائية(***) أنها غصت تماما ببربريتها تلك. أما دافعها فقد اتضح الآن فقط. حاولت الدائية من خلال الرسم (والأدب أيضا) إحداث التأثيرات ذاتها التي يبحث عنها جمهور اليوم في السينما.

وكل طرح مستجد واستباقي سيغالى من شأنه كثيرا. بل إن مغالاة الدادائية من شأن نفسها تبلغ مستوى تضحي فيه بقيم السوق المقدسة بالنسبة للسينما لصالح نواياها الأكثر أهمية -والتي من البديهي أنها في شكلها التوصيفي غير معروفة عندها. كان الوزن الذي أعطاه الدادائيون للاستفادة من أعمالهم الفنية تجاريا أقل بكثير من الوزن الذي أعطوه للإبقاء عليها (مشاعيتها) كمواضيع للتبحر. ولعمري إنهم بانحطاط مادتهم أصلا آخر من يتحدث عن بلوغ تلك الحالة من المشاعية. إن قصائدهم عبارة عن «سلطة كلام» تتضمن عبارات سليطة فاحشة وتحوي كل صنوف أي انحطاط متصور للغة ما. لوحاتهم كذلك ليست شأنا آخر تلك التي كانوا يلحقونها بالأزرار أو بتذاكر السفر. أما ما وصلوا إليه بوسائلهم تلك فليس سوى إبادة لا ترحم لأورا نتاجهم الذي من خلال وسائل الإنتاج وسموه بوسم الاستنساخ. من المستحيل أمام لوحة لآرب أو قصيدة لأوجوست شترام أو أمام لوحة لديراين أو قصيدة لريلكه إتاحة وقت لتركيز ذهني أو لرأي. حالة التأمل تلك التي أصبحت في انحطاط الطبقة الوسطى مدرسة سلوك شاذ (خارج عن المجتمع) قابلتها حالة من التلهي كشكل من أشكال السلوك الاجتماعي. في الحقيقة كانت المؤتمرات الدادائية (الاحتشادات) تسمح بحالة من المجون الشديد حين تجعل من العمل الفني محورا لأي فضيحة. كان حسبه منهم مطلب واحد لا سواه: إظهار استياء علني.
لقد تحول العمل الفني على يد الدادائيين من مظهر مغر وبنية إقناعية إلى مقذوف ناري يصب على رأس المتأمل. أي أنه اكتسب خاصية حسية. وبهذا كانت تميل إلى السينما لأن عنصرها الإلهائي في المقام الأول هو عنصر حسي قائم بالذات على تبدل المواضع ووجهات النظر تلك التي تنفذ إلى المشاهد بشكل متقطع. سنجري مقارنة بين شاشة العرض السينمائية والشاشة القماشية التي ترسم فيها اللوحة. هذه الأخيرة تدعو الناظر إلى التأمل وبوسعه أمامها أن يستسلم لجريان تفاعله. وليس بوسعه ذلك أمام الصورة السينمائية. فلا تكاد تظهر له إلا وتكون قد تغيرت. فصورة لا يمكن النظر إليها مليا. إن دوهامل الذي كان يكن مقتا للسينما ولا يفهم أهميتها بقدر ما يفهم تركيبتها يشير إلى تلك الحالة بقوله: «لم يعد بإمكاني أن أفكر بما أريد أن أفكر به. إن الصور المتحركة حلت محل أفكاري». حيث إن ذلك الجريان التفاعلي في تأمل تلك الصور يتلاشى فور أن تستبدل بأخرى. وهذا ما يقوم عليه الفعل الإسفيني للسينما والذي يريد لنفسه كأي تأثير صدمة أن يتراكم عبر حضور ذهني متصاعد. بفضل تركيبتها التقنية فإن للسينما فعلها الإسفيني الحسي تماما كذاك الذي لدى الدادائية والمبطن في نفس الوقت بأخلاقيات قد انسلخت عنها.

قد يعجبك ايضا