لأول مرة وعلى غير العادة أجد صديقي الكاتب دولة رئيس وزراء حكومة الإنقاذ بصنعاء أ.د عبدالعزيز بن حبتور، يختط نهجا غير مسبوق في كتابة المراثي الحزينة بقالب سردي، وليس ذلك وحده ما أذهلني حقيقة، بل إن ما ابتدعه الكاتب من المزاوجة والتشبيك النصي لسرديتين، افترقتا في غرضهما لكنهما تقاطعتا في الدلالة، بصورة لا تخلو من الغرائبية التي يكتظ الوطن اليمني بمتشابهات لها والتي تحمل فوق ناصيتها يافطة عريضة كُتب عليها نص (ابتسم فأنت في اليمن)..
لعل ما تقدم هو مدخل توضيحي لتبرير أي تعثر أو قصر إحاطة بمضمون المرثية الجدلية المحتوى، لذلك فإنني أستبق بتقديم اعتذاري عن أي تقصير لربما صادفه القارئ العزيز عامة أو ذلك القارئ الذي عاش معنا سفر مسيرة النكد النضالي منذ منتصف ستينيات القرن الفارط وإلى يومنا هذا.
حتى لا نغرق في تفاصيل فنية ومنهجية مضمون المرثية، دعونا نذهب مباشرة إلى صميم تعقيبنا، حيث نجد الكاتب يستهل المرثية، بـ(ودعت جامعة عدن ومدينة عدن واليمن عموماً)، ولم يشر إلى مسقط رأس الفقيد يرحمه الله، ومرابع قبيلته في بلاد الواحدي، وهذه واحدة من الدلالات اللافتة والأكثر بروزا، تطالعنا من السطور الأولى للمرثية، التي ينبغي الوقوف أمامها للتفكر بعقلية وقناعات الكاتب الراسخة، لا سيما ونحن نشاهد انزياحات يسلكها اليوم كثر من دعاة استعادة دولة الجنوب التي دوَّخونا بها، بينما هم يتمترسون في أماكن سكناهم وقراهم التي وُلدوا فيها بكل أريحية.
ثم نرى الكاتب وقد نقلنا بسلاسة إلى مشهد الحزن الذي أحاط بذلك الوداع كونه الوداع الأخير مضافا عليه الوفاة المبكرة خاصة والفقيد كان في أوج العطاء العلمي والأكاديمي الذي كان يصر على تقديمه خدمة لوطنه، بعد ذلك نرى الكاتب وقد ذهب لتقديم سرد بتاريخ علاقته بالفقيد رحمة الله عليه، لا بل تاريخ علاقة التساكن والجوار الجغرافي بين آل بن حبتور وآل باسردة، وما بينهم من الصهارة والود الذي يرسم ملامح تلك العلاقة التي تمتد عمقا بالزمان والمكان، وكيف تعززت تلك العلاقة في عام ١٩٧٨م حين التحق الفقيد بالدراسة الجامعية في (كلية الاقتصاد والإدارة) بمدينة كريتر بمحافظة عدن، وهي نفس الكلية التي درس فيها وتخرج منها الكاتب.
في الفقرة اللاحقة ذهب الكاتب لسرد شهادته بكل صدق وموضوعية عن مواهب الفقيد وقدراته القيادية في مجال النضال النقابي الطلابي والسياسي، ليس عن قرب بل بالتحام من خلال عضويتهما المشتركة (بالحزب الاشتراكي اليمني)، راصدا بدقة مراحل تدرجه وارتقائه في المواقع القيادية حتى ترؤسه للمجلس الطلابي بجامعة عدن بجدارة واستحقاق، حيث أصبح عضواً في المكتب التنفيذي للجامعة، وكذلك عضو مجلس الجامعة، وذلك موقع يحلم ببلوغه الكثير من النشطاء في العمل النقابي الطلابي والسياسي في الجامعة.
لذلك فقد استمر رئيساً للمجلس الطلابي بجامعة عدن حتى بعد تعيينه كمعيد في كلية الاقتصاد والإدارة، وبذلك أصبح موقعه هذا عبارة عن موقع كفاحي متقدم، وأيضاً منصب قيادي مهني تخصصي في إدارة العملية التعليمية والتحفيز للشباب في الانخراط بالتعليم الجامعي كمؤشر لنجاعة التنمية للموارد البشرية، وكذا الحشد المجتمعي لتعبئة الطاقات لضمان لحمة اجتماعية من خلال دور تنويري وترشيدي، كمهام محورية تنهض بها الجامعة في وسط المجتمع، وبذلك يصبح ممثل القطاع الطلابي كعضو في مجلس الجامعة عبارة عن موظف رفيع المستوى وأحد الراسمين لسياسة الجامعة، وتلك سانحة غير عادية توفر له مستوى نضاليا مهما، وتدريبا تطبيقيا لاكتساب مهارات قيادية يتطلع الكثيرون للفوز بها، وذلك هو ما تحقق لشخص الفقيد لاحقاً.
صراحة أقول إن الكاتب بمهنية عالية أذهلتني، ولا علم لدى كيف ومتى اكتسبها، ووظفها بحرفنة مدهشة على طريقة عدد من الروائيين الكبار وكتاب السيناريوهات الدهاة، قد قام بتشبيك مشهدي لسرديتين في استدارة ذكية ورشيقة ليجد القارئ نفسه وقد أطل على موضوع جديد في السرد، صحيح أنه لا يشبه ما سبق لكنه مرتبط بالواقع العام للمسارات النضالية ببلادنا لدرجة يجد القارئ أنه لا يقرأ مقالا رثائيا، إنه يشهد فيلما حداثياً تتصاعد وتتشابك فيه المشاهد حتى من خلال (الفلاش باك) لتأكيد وترسيخ مضامين السرديين بتتاليهما وصولاً إلى (المستر سين) والذي هو مبتغى التناول وهدفه الرئيسي، فمن خلال أسطر قليلة أشار فيه لاحتدام صراع منتصف الثمانينيات ووجود الفقيد في دوامته ضمن الطرف المهزوم، أجبره على شد الرحال إلى صنعاء وهنا تمكن الكاتب (سحدلة سردية مواسم الهجرة إلى الشمال)، والسحدلة تعني (تمرير الموضوع بغفلة من أي رصد)، وحتى يجعل موضوع السحدلة أكثر إثارة وتشويقا فقد ذهب الكاتب إلى تأصيله من خلال ذهابه إلى البدايات الأولى منذ الزمن الاستعماري، ليس ذلك فحسب بل إمعان في الإثارة نرى الكاتب وقد قدم حشدا مهولا من الأسماء البارزة في مسيرة الحركة الوطنية اليمنية، صافعا من خلالها أصداغ دهاقنة و أزلام الدعوة للانفصال، مؤكداً عضوية وموضوعية تجذر الانتماء الوطني اليمني الواحد وواحدية الثورة اليمنية، في مواجهة هرطقة الحديث الذي يردده دعاة استعادة دولة الجنوب العربي، بغير ما علم أو تزلفا لدافع نفقة إعاشتهم، والذي يتوهم قدرة لا يحوزها في ابتلاع هذا الجزء الحبيب من الوطن.
ومرة أخرى أقول إنني أغبط الكاتب على ما يحوزه من ذاكرة توثيقية (ما شاء الله عليه)، أثبت حضورها من خلال ذلك الجمع الملحمي (لأسماء الصفوة من كواكب نضالنا الوطني)، بصرف النظر عن تعدد وجهات نظر البعض حول عدد منهم، لكنه لم يستثن أحدا منهم في ذلك السرد الذي عرضه في مشاهد ممتدة لزمن يفوق العقود الستة في السفر الكفاحي الوطني.
وفي عودة حصيفة نرى الكاتب وقد عاد للحديث عن الفقيد ومناقبه وقدراته التي أسهب في ذكرها، عبر عرض يوميات الهجرة الخالية من متاعب متوقعة، سرد لنا كيف تعامل الأخوة في صنعاء معه ومع العديد من المهاجرين قسرا إليها، بدمجهم في نسيج مجتمعها وجهازها الحكومي، وما قطعه الفقيد من أشواط في العمل والتحصيل العلمي ابتداءً بالماجستير وحتى نيل الدكتوراة في روسيا ثم عودته للعمل في جامعة عدن بعد الوحدة، من خلال مسلسل تراجيدي في بناء قدراته وصقل مهاراته وما تبوأه من مناصب زينها بحضوره فيها، سواء في الوطن أو خارجه حين عمل ملحقا ثقافيا في روسيا الاتحادية.
ختام ما قبل الخلاصة
قام الكاتب بتقديم توضيح نصي للمقال الرثائي المشتبك بين سرد الرثاء للفقيد، وسردية التاريخ السياسي ليقينه بأنه قد ابتدع نهجا جديدا في الكتابة غير مسبوق، من التلطف في رصانة وكرم عهدناهما منه، مسببا لذلك الابتداع بشرح أجمل فيه الضرورات التي أجبرته على ذلك خصوصاً في السردية الثانية، والتي تتناول الجانب المأساوي من تاريخنا النضالي الوطني، مشيرا إلى ترابط السرديتين بل إنهما تتكاملان في رسم ملامح المشهد اليمني بكل تضاريسه الديموغرافية، مؤكداً على استمراره بكل ما يحمله من بؤس إلى يومنا هذا وكأنه لصيق الشبه (بلعنة الفراعنة)، أو هو شيء من لعنة الجغرافيا والتاريخ اليمني الحميري، أو لربما هو لعنة الجوار الإقليمي مع البعران و رعاة الإبل الغارقين بترف (أموال البترودلار) التي تحولت إلى لعنة على المحيط العربي بكامله.
أما الخلاصة
فهي تكثيف يلخص حجم الحزن والأسى على فقيد يسكن وده الوجدان، لينضاف عليه وجع الحرب العدوانية التي تشنها دول العدوان على ما يزيد عن سبع سنوات ذهب ضحيتها الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى، في إهلاك للحرث والنسل وبنى تحتية أسسها شعبنا بالعرق والدماء والدموع، لكن ما يثلج الصدر هو تواصل صمود اليمانيين بل وتمريغ أنوف أعدائهم في الوحل بكل شموخ ذودا عن كرامة المواطن وسيادة الوطن.
ذلك هو مبلغ إحاطتنا بما احتواه هذا المقال الرثائي المشتبك مع ما هو سياسي من هواجس الراهن في حياة شعبنا.
جامعة عدن