العمل الفني والفضاء التقني

في الفوتوغراف تقوم القيمة الاستعراضية (للعمل الفني) بطرد القيمة القداسية على كافة المستويات. غير أن الأخيرة ليس لها أن تنسحب دون مقاومة فهي تلوذ بحصن أخير هو وجه الإنسان. وليس من باب المصادفة أن يكون البورتريه في صدارة فن الفوتوغراف المبكر. فالقيمة القداسية لصورة ما لها ملاذها الأخير في تقديس ذكرى الأحبة البعيدين أو المتوفين.
إن في التعابير الخاطفة لوجه إنسان ما يجعل الأورا تنبعث من الفوتوغراف المبكر ملوحة للمرة الأخيرة. وهذا ما يضفي عليه جماله الحزين للغاية والذي لا يضاهيه جمال. لكن حيثما لا يعود للبشر مكان في الفوتوغراف تكون القيمة الاستعراضية قد اكتسحت القيمة القداسية اكتساحا ساحقا. ولإعطاء هذا الحدث مكانته صار لـ Atget الذي صور الشوارع الباريسية في القرن التاسع عشر مقفرة من الوجوه أهمية لا مثيل لها. لقد كان أحدهم على حق تماما حينما قال إنه صورها كما لو كانت مسرح جريمة. فوحده مسرح الجريمة هو المقفر. لكن تصويره كان له حيثياته. فمع “أتجت” بدأت الصور الفوتوغرافية تصبح بمثابة أدلة يحتج بها في المسألة التاريخية. وهذا يظهر أهميتها السياسية الخفية إنها تقتضي تقبلا ذا دلالة محددة. أما الوقوف عندها بتأمل وإمعان فأمر ليست جديرة به. إنها تجعل المتأمل نهبا للحيرة والاضطراب إذ يشعر بأن: عليه إيجاد طريق معين للوصول إليها. وهنا تبدأ الجرائد المصورة برفده بالإرشادات. وسيان أكانت صحيحة أم خاطئة. وللمرة الأولى ستصبح الكتابة الإرشادية على الصور أمرا لا مندوحة عنه. ومن الواضح أن لديها سمة تختلف عن اسم لوحة. وعما قريب ستصبح تلك التعليمات التي يتلقاها متأمل الصور في الجريدة المصورة من خلال الكتابة أكثر إحكاما وسطوة في السينما بحيث لن يتأتى فهم أي صورة على حدة (بمفردها) إلا من خلال توالي كل الصور السابقة والمطعمة بالإرشادات.
***
إن إعادة إنتاج العمل الفني تقنيا تغير موقف الجماهير من الفن. فمن موقف متخلف للغاية من شخص اسمه بيكاسو على سبيل المثال إلى موقف متحضر للغاية من شخص اسمه شابلن. وما يميز السلوك المتحضر هنا هو أن الرغبة في الاطلاع والمعايشة تخلق فيه تواصلا مباشرا وحميميا مع موقف الناقد المختص. تواصل كهذا هو دلالة اجتماعية مهمة. إذ كلما تضاءلت الأهمية الاجتماعية لفن ما انقسم الجمهور -وهو ما يتضح بجلاء في فن الرسم- بين موقف نقدي وموقف متلق. فالتقليدي (المتعارف عليه) يتم تقبله دون نقد أما الجديد فيتناوله المرء بالنقد رفضا له. وفي دار السينما يتزامن موقفا الجمهور النقدي والمتلقي معا. فالعامل الحاسم هنا هو: لا يوجد مكان أفضل من دار السينما تتجلى فيه ردات فعل الأفراد الذين يشكل مجموعهم ردة فعل الجمهور العاصفة التي ستتوقف من الآن فصاعدا على احتشاداتهم الوشيكة تعبيرا عن أنفسهم وامتلاكا لزمام أمرهم. كما أنه من الآن فصاعدا ستبقى المقارنة مع فن الرسم مجدية. كان الاستحقاق الأهم بالنسبة للوحة هو تأملها (استعراضها) من قبل شخص أو عدة أشخاص. أما استعراضها من قبل جمهور ضخم دفعة واحدة كما كان حاصلا في القرن التاسع عشر فهو ظاهرة مبكرة لأزمة الرسم التي أثيرت ليس من خلال الفوتوغراف فحسب بل وأيضا –بشكل مستقل نسبيا عن ذاك- من خلال استحقاقية العمل الفني على الجماهير.
المسألة فقط أن الرسم ليس قادرا على عرض موضوع أمام أي تلق جماعي دفعة واحدة مثلما هو الأمر مع الفن المعماري قديما ومن ثم مع الملحمة ومثلما هو اليوم مع السينما. ومع أنه قليلا ما يستدل من هذا الظرف بالذات على الدور الاجتماعي للرسم إلا أن له وزنه في هذه اللحظة باعتباره إضرارا ثقيلا تم فيه الزج بفن الرسم عبر ظروف خاصة وبطريقة مخالفة لطبيعته وجها لوجه مع الجماهير. لم يكن للوحات في كنائس وأديرة العصور الوسطى وفي بلاطات الأمراء حتى نهاية القرن الثامن عشر أن تستعرض جماعيا وبدفعة واحدة بل كان الأمر في كثير من الأحيان متدرجا وهرميا. ولكن عندما تغيرت الحال برز الصراع الخاص الذي سيتم فيه توريط الرسم عبر إعادة إنتاج الصورة تقنيا. أما وقد تعهد أيضا بجره إلى الأروقة والصوالين أمام الجماهير فلم يعد ثمة من طريق يمكن معه لهذه (الجماهير) أن تنتظم في تلقيها ذاك ولا أن تمتلك زمام أمرها وعليه لا بد لهذا الجمهور ذاته المتفاعل بشكل متحضر مع سينما هزلية ألا يكون سوى جمهور متخلف أمام السوريالية.

قد يعجبك ايضا