يرتبط مفهوم مصطلح الثورة بالتغيير الجذري سواء لنظام دولة ما بشكل عام وتنسب إليها ، أو بمجال بعينه فيطلق عليها : الثورة العلمية ، ثورة الاتصالات، الثورة الثقافية ، إلى غير ذلك من التفرعات ، وكثيراً ما ينصرف معنى الثورة في الذاكرة الجمعية إلى تغيير النظام السياسي باستعمال القوة المسلحة وهذا الخطأ في المفهوم سبب رئيس من أسباب استمرار تناسل الثورات وتصاعد ثقافة العنف بصورة عبثية يضيع معها الاستقرار والسلام ، ويذهب كثير من المفكرين إلى أن تغيير الأنظمة عن طريق العنف شر محض لأن من يشرعن لنفسه الاستيلاء على السلطة باستخدام القوة لا يحق له إغلاق هذا الباب واحتكاره لنفسه.
وأعتقد أن من غير الجائز وصف تغيير حاكم بحاكم عن طريق القوة مع بقاء النظام الفاسد بالثورة ، الثورة الحقيقية بالمعنى الإيجابي إنما تكون بوضع أهداف وخطط وبرامج لتنفيذها وتقييم أداء الأجهزة والمؤسسات المسؤولة عن التنفيذ لتبقى حيويتها مستمرة الارتباط بحياة المواطن وتطلعاته ، فكم من ثورات دموية ولدت ثم ماتت أو أن يوم ميلادها ذاته هو يوم وفاتها، لما خلقته من أحقاد وما زرعته من بذور الانتقام والانتقام المضاد وهكذا ، هذه النظرية تجعل كل من يفكر في ثورة ولديه ذرة من ضمير سيفكر ألف مرة في مصيرها ومصير من شارك فيها أو أيدها أو تعامل معها، والتأمل في مصير الثورات التي ولدت ثم ماتت أو ولدت ميتة يغني عن الإسهاب في الشرح.
محور أهداف كل ثورة شريفة -إن وجدت- هو توظيف السلطة لخير الشعب فإذا وُظفت لمصلحة سلطة مستبدة عائلية أو حزبية أو جماعة أو مذهب أو حتى دين مستندة إلى المفهوم الضيق للسلطة فإنها بهذا الانحدار تصبح أم الكوارث وضررها عام وشامل ولهذا فان أغلب العقول التي تفكر بمسؤولية باتت ترفض الثورات وتميل إلى التغيير عن طريق العلم والتدرج في تصحيح الأخطاء ومحاولة تقويم اعوجاج مسار السلطة بما يحقق المصلحة العامة لكل الشعب! ، وبالمقابل هناك من يرى أن المستبد لن يغادر السلطة عن طريق التنظير للتداول السلمي ولا عن طريق النُصح والمواعظ وإنما بالقوة لأن المستبد ليس من طبيعته قبول النصح والموعظة ولا إفساح المجال أمام العلم والعلماء ليكون شريكاً فاعلاً في الحكم لهذا نراه يعتمد على جيش من المنافقين والجهلة والقتلة وقطاع الطرق يتقاسم معهم المصالح وتسيرهم لغة مشتركة لحماية هذه المصالح وليذهب الشعب إلى الجحيم ، السلطة عنده غنيمة وليست مسؤولية مهما رفع من شعارات ، ومؤسسات الدولة ملك خاص وصل إليها بقوة السلاح أو وفق دعوى حق الوراثة ، أو بالانتخابات المزورة !!
وارتباط الثورات بوعي المجتمعات يعني أن التغيير القابل للبقاء إنما يأتي عبر التدرج في الوعي ، لكن المؤسف أن الواقع مازال يفرز سلطات مستبدة تكرس كل الطاقات للاستئثار بالحكم وتسعى لتوريثه والعمل بكل ما لديها من قوة على تجهيل المجتمع وإيقاف عجلة التطور ، وهذا الحال له شواهد في بلدان كثيرة وعلى مستويات متعددة في الثقافة والتطور العلمي والتكنولوجي وإلا فما الذي يجعل أكثر من سبعين مليون ناخب أمريكي في دولة توصف بأنها الأولى في العالم تطوراً في مختلف مناحي الحياة ما الذي يجعلهم يصوتون لشخص مثل ترامب سلوكاً ومنهجاً واضطراباً نفسياً وتناقضاً وانتهازية ووو ….. الخ؟!!
الإجابة التقليدية على هذا السؤال أن السلطة في أمريكا تُدار عبر مؤسسات صلاحيات الرئيس فيها مبنية على قواعد لا تسمح بتجاوزها فالرئيس ليس الحاكم بأمره وليس من حقه مخالفة القانون بحجة أنه ليس مقدسا كما أن سلطات الرئيس التقديرية في السياسة الخارجية أوسع من سلطاته في السياسة الداخلية ، وجوهر شرعية أي إدارة أو نظام ترتكز على ما يمس حياة المواطن الأمريكي مثل الضرائب وعائدات البلطجة التي تمارسها الإدارة الأمريكية من سياسة الابتزاز الخارجية والمتاجرة بحقوق الإنسان وصناعة الإرهاب ثم ادعاء محاربته ، وبخاصة في العالم الثالث والبلدان العربية والخليجية بوجه أخص وبشكل واضح منذ أحداث 11سبتمبر 2001م وجعلها تنعكس إيجابياً ولو بشكل محدود على معيشة المواطن الأمريكي ، ونتذكر تصريحات ترامب الاستعراضية خلال وعقب زيارته المليئة بالإهانات المشهودة للنظام السعودي (البقرة الحلوب ) حسب ترامب ، وبشارته للأمريكيين بأنه عاد من الزيارة بوظائف (jobs _ jobs _ jobs) هذه الإجابة قد تبدو مقنعة وفق المفهوم الخادع لنظرية (السياسة مصالح) التي لا تميز بين المصالح المتوحشة غير المشروعة والمصالح المشروعة ولكنها تعكس نزعة لا إنسانية لدى من شاركوا بالتصويت لصالح هذه الشخصية التي تكرس لشرعنة المفهوم اللاأخلاقي للسياسة!؛
ولهذا ستبقى في الأفق ثورات تستحق الاحترام وأخرى لا تستحق أكثر من الرثاء!.
على ضفاف نهر الأحلام المتخثرة
رأيت الثورة تغتسل من أدرانها
تبحث عن جدول
عن عشب وعن مكان في الروح
تعرفه ويعرفها