كنت أقول دائماً، إنّ أسوأ ما يمكن أن تفعله هو المسارعة لدخول قفص الاتهام، لمجرد أنّ طرفاً ما وجّه إليك تهمةً ما، ثم تبدأ من هناك دفاعك، فهذه ستكون الخطوة الأولى نحو الإدانة أو الهزيمة. والمقاومة أسمى من هذا الموضع، بل إنّ منصة القضاء مكانها، فهي الحاكمة على الجميع، ورغم ذلك فهي شديدة الترفع، فلا تحاول لعب دور الحاكم والقاضي، ورغم ترفّعها تعفّفاً لا عجزاً، يحاول المدانون أصلاً زجها في قفص الاتهام. وفي الكثير من المراحل خصوصاً في العشرية الأخيرة، اتخذ الإعلام المقاوم صفة الدفاع، في مواجهة الكمّ الهائل من الأكاذيب التي كان ينفثها إعلام النفط والإعلام «المتأسرل»، وكما قال السيد نصر الله في خطابٍ سابق، إنّ المقاومة على المستوى العسكري في مواجهة الإرهاب في سوريا، انتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وهذا ما سينسحب على كل المستويات والإعلامي على رأسها، فالإعلام يمثل رأس حربة العدوان. كان الإعلام المقاوم درعاً للمقاومة، وحان الوقت ليغدو سيفها.
في عشرية العدوان على الأمة في ما يُسمى بـ»الربيع العربي»، خصوصاً في العدوان على سوريا، ضخّ إعلام العدوان من الأكاذيب، ما فاق كل الكذب البشري منذ بدء الخليقة، وكان الكذب مقنعاً بكثيرٍ من الأقنعة المبهرة -واسميه الكذب الذكي-، فمنها القناع الأكاديمي والقناع الديمقراطي والقناع الإنساني وقناع الموضوعية وقناع الحريات، وحينها أصبح بالإمكان استخدام الأقنعة بشكلٍ مثير للغرائز دون خجل، كالقناع الديني والأقنعة المذهبية والطائفية، رغم أنّه لا شيء تحت الأقنعة سوى نجمة داوود، وكانت الاستراتيجية المتبعة هي مراكمة الأكاذيب فوق بعضها البعض حتى تصبح حقائق، ثم يتم البناء عليها والانطلاق منها، فتصبح الحقيقة دفينة الأكاذيب، ويبدو استخراجها أمراً مستحيلاً. وقد وصلنا اليوم إلى مرحلة الكذب الغبي، حيث لم يعد بحاجة إلى إتقان، ومهما كان الكذب نافراً وخارج سياق المنطق، يتم حشوه في عقل الجماهير، اعتماداً على المراكمة على مدار السنوات الماضية، ولكنّي أعتقد أنّه إفلاس وإحباط، حيث أنّ قدرة الإعلام المعادي على مواجهة صمود محور المقاومة وتقدمه قد تقلصت، وأصبح الكذب أقل فعالية في الاستقطاب والتجييش والتحريض.
وهذا يُشكَّل الفرق بين إعلام المقاومة وإعلام»الأسرلة»، فطبيعة الأشياء أن تنهار جبال الكذب يوماً، لأنّها لا تستند إلى قواعد الحقيقة أو قواعد حقيقية، ومهما امتلك إعلام العدوان من قدراتٍ للدفاع عن أكاذيبه واستمرار مراكمتها، فإنّ الوقائع الدامغة والحقائق الراسخة تشكّل العدو الأكبر لذلك الإرث من الكذب، والتاريخ عادةً يسجل رواية المنتصر، فكيف إذا كان صاحب الحق هو من انتصر، حينها ستكون الرواية التاريخية أكثر عدلاً وأشد تألقاً، وسيكتشف المضلَّلون أنّهم كانوا خاضعين لعملية غسيل أدمغةٍ محكمة، فمحور المقاومة ابتعد كثيراً عن سبل الهزيمة، ولم يعد يتقن سوى السير في طريق النصر، وعجلات التاريخ لا تدور للخلف، والمستقبل بلا شك لهذا المحور، وليس لمحور»الأسرلة»، فاليوم نعيش مرحلة أقل تعقيداً وأكثر وضوحاً في الخيارات والمسارات، فهناك محور يرى أنّ مصلحة الأمة تكمن في إزالة»إسرائيل» من الوجود، وهناك محور يرى أنّ مصالحه الشخصية والمالية والسلطوية تكمن في بقاء «إسرائيل» وقوتها، حتى لو كان على حساب مصير أمة، ولكن هناك طرف ثالث، يظنون أنّهم ليسوا في محور «الأسرلة»، ولا ينطبق عليهم وصف السيد نصر الله بالواقفين على التلة، وهم أولئك الذين يعادون محور المقاومة ليلاً ونهاراً، لكنهم في ذات الوقت يمارسون أدبيات العداء لـ»إسرائيل» في المناسبات، وهؤلاء الأشد نفاقاً هم الأشد خطراً من «المتأسرلين».
ومن أهم مظاهر الانتصار التي تحدث عنها السيد نصر الله، كان ترسيخ معادلة المنطقة مقابل القدس، ورغم أنّه كان صريحاً في أنّ العمل جارٍ لتحقيق هذه المعادلة لتصبح واقعاً، إلّا أنّ المتابع لسياسة حزب الله وخطابه الإعلامي، يدرك أنّه حزب المفاجآت، وأنّ العمل المنجَز يظل منقوصاً طالما ظلّ بلا تنفيذ، وقد لاحظنا ذلك في خطاب السيد نصر الله السابق، الذي أعلن فيه أنّ خطة استيراد المحروقات من إيران جاهزة كلياً، وهي بانتظار الوقت المناسب لاتخاذ القرار، رغم أنّه قبل ذلك لم يتحدث إطلاقاً عن الجهوزية التامة، بل كان يطرح الأمر باعتباره فكرة قابلة للدرس، وإذا أضفنا إلى ذلك، أنّ أحد أسباب استعجال العدو الصهيوني قبول وقف النار في معركة سيف القدس، كان خشيته من تدحرج المعركة إلى حربٍ إقليمية، نستطيع أن نستنتج بسهولةٍ أنّ هذه المعادلة أصبحت بانتظار القرار في الوقت المناسب، وأنّ الوقت يزيدها اكتمالاً، فالمعادلة لم تبدأ من الصفر، وحين قال السيد نصر الله إنّ «إسرائيل» ستفكر مليون مليون مرة قبل التعرض للقدس، في حال ترسيخ المعادلة، فهو يعرف أنّ «إسرائيل» بدأت التفكير فعلياً منذ أطلق تلك المعادلة، وأنّها بالفعل تتعامل معها كحقيقة، وأنّها تستعيض عن العجز في مواجهتها بتشويه الوعي الجمعي عبر إعلام النفط «المتأسرل»، وتستعيض كذلك بتسريع عجلة التطبيع، لكنها مسارات لا تغيّر في موازين القوة ولن تؤثر على نتائج الميدان.