لطالما سمِعنا خلال العقود الماضية عن أهمية تشجيع المنتج المحلي ودعوات متكررة للاستثمار, بيد أن الأيام والنتائج أثبتت أنها كانت مجرد شعارات فارغة ساومَ بها صُناع القرار المستثمرين!! كما أثبت الواقع أن حرباً ضروساً شُنّت على المحليين والخارجيين منهم وأن ابتزاز المستثمرين المُتفاعلين مع تلك الدعوات كان يبدأ من بوابة مطار صنعاء وينتهي في أجهزة القضاء التي لا تقل فساداً عن بقية أجهزة الدولة آنذاك تارةً بالعمولات مقابل الحماية أو عن طريق الإتاوات التي كانت تُقدّم لعتاولة الفساد من قادة عسكريين ومسؤولين متنفّذين مقابل السماح للمستثمر بممارسة أنشطته دون عراقيل ما جعل مسألة تشجيع الاستثمار والمنتج الوطني ليس إلا مُجرد شعارات فارغة تُتلى ليل نهار على وسائل الإعلام دون أي نتيجة يمكن أن يلمس أثرها المواطن أو الاقتصاد الوطني، ونتيجة الظروف التي واكبت تلك الحقبة من ضعف الجهاز القضائي وفساد الجهاز الأمني وسطوة المتنفذين نشأت بيئة طاردة بامتياز لرؤوس الأموال الخارجية المُستثمرِة وحتى الوطنية لأنه كما يُقال (رأس المال جبان)، الأمر الذي أدى إلى عزوف كثير من المستثمرين ومن الشباب الحالم بترجمة بعض الأفكار النيّرة نتيجة عدم توفر البيئة المناسبة لإخراجها إلى حيز النور ما دفع بالكثير منهم إلى الاعتماد على الوظيفة في القطاع الحكومي أو الخاص في تخصصه أو خارج تخصصه أملاً في تحقيق جزء من طموحاته بعد أن تنازل عن جزء كبير منها، وذلك بالمُجمل أدى إلى خلْق هوية اقتصاد ريعي هش نتيجة اعتماد البلد على مصدر وحيد وهو الوقود الأحفوري، ونتيجة الظروف التي أحاطت المجتمع آنذاك من فساد ومحسوبية وعدم توزيع عادل للثروة انتفض اليمنيون بعد أن وصل بهم الحال إلى مراحل من الفقر والفساد والفوضى، ولن أخوض كثيراً في تفاصيل تلك المرحلة التي تلاها عدوان آثم على اليمن في السادس والعشرين من مارس للعام 2015م وأدى إلى خسارة كثير من اليمنيين لوظائفهم وممتلكاتهم، وأعاد اليمن عشرات السنوات إلى الوراء حيث لا ماء ولا كهرباء, وعُطِّلت أدوات الإنتاج وتوقفت وسائل النقل نتيجة انعدام المشتقات البترولية، وكما هو معلوم عبر التاريخ أن الأزمات التي تأتي على شكل حروب أو احتلال أو حصار غالباً ما تكون سبباً ودافعاً لصناعة معجزات شريطة توفر الإرادة الصلبة والقيادة الحكيمة، وقد ثَبُت ذلك تاريخياً في كثير من دول استطاعت أن تصنع من المحن مِنح ومن الألم أمل وحققت نتائج إيجابية غير متوقعة في الجانب الصناعي والزراعي بل وتمكّنت نتيجة الحاجة الملحّة والظروف القاسية التي تعرضت لها إلى تحقيق اكتفاء الذاتي وخلق فائض أتاح لها التصدير، ولنا في الصين وإيران والهند خير مثال.
لن تُمحى من الذاكرة الجمعية تلك السنوات القاسية من الحصار والعدوان التي عاشها اليمنيون وعانوا خلالها الأمرين نتيجة القصف بمختلف أنواع الأسلحة والحصار الخانق وانعدام المشتقات البترولية التي يعتمد عليها غالبية أبناء الشعب اليمني في أعمالهم ومعيشتهم من زراعة وصناعات صغيرة ونقل وغيره, حيث كان ذلك كفيلا بإيقاف الحياة العامة، لكن اليمنيين تمكّنوا من كسر ذلك الحاجز بفضل الله تعالى ثم بفضل التجارب التي اكتسبوها عبر الزمن واستطاعوا إيجاد حلول بمزايا لم تكن على الحسبان؛ فلم يشهد التاريخ اليمني أن اعتمد اليمنيون على الطاقة النظيفة كبديل للبترول والديزل في ري مزروعاتهم وممارسة بعض أنشطتهم خلال السنوات الأخيرة التي قضاها أبناء الشعب اليمني تحت وطأة الحرب والحصار، وغدت العديد من الحقول والأودية والقيعان تعتمد بشكل رئيسي على الطاقة الشمسية, وبذلك أوجد اليمنيون حلاً لمعضلة انعدام المشتقات البترولية الناتج عن الحصار الخانق الذي فرضته دول العدوان وتحولت تلك المشكلة إلى ميزة تمكن الاقتصاد الوطني من خلالها توفير عملة صعبة استنزافها يؤدي حتماً إلى مضاعفات وخلل في ميزان المدفوعات.
ولأن من يملك قوته يملك قراره فقد سعت القيادة جاهدة إلى الاهتمام بالجانب الزراعي لاسيما زراعة الحبوب حيث صدرت قرارات بتأسيس عدد من المؤسسات الزراعية الإنتاجية مثل مؤسسة الإكثار من البذور المحسنة ومؤسسة تنمية وإنتاج الحبوب وغيرها من المؤسسات لغرض تنشيط الجانب الزراعي وتوفير البذور الجيدة للمزارعين وتقديم المشورات الفنية, كما شجّعت على تأسيس الجمعيات والمجاميع الزراعية التي اعتمدتها بنظام الزراعية التعاقدية، وهذا يعتبر من الأساليب الحديثة التي حولت مساحات شاسعة من أراضٍ مهملة إلى أراضٍ منتجة سبق وأن اعتمدت عليها دول عظمى كالصين وأصبحت في مصاف الدول المصدرة للمنتجات الزراعية، كما تبنّت هذه المؤسسات زراعة الحبوب في أكثر من محافظة يمنية وكانت النتائج مبشرة جداً حيث تم تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب في بعض المحافظات اليمنية مثل محافظة الجوف, وتوسعت المساحة الزراعية إلى مليون هكتار في السنة منها 60 % تستحوذ عليها الحبوب بمختلف أنواعها, حيث نسبة تلك المساحة ترتفع في أوقات الأمطار إلى مليون وأربعة آلاف هكتار تذهب أغلب هذه الزيادة في زراعة الحبوب, كما تم تشجيع زراعة وتسويق البن على اعتبار أن هذا الصنف يمثل أهم صنف تميز به اليمن منذ قرون ناهيك عن أنه يشكل رافداً اقتصادياً ودخلاً قومياً كبيراً, وبذلك توسعت زراعة البن خلال سنوات العدوان وانتعشت في مناطق كثيرة مثل حراز وآنس والعدين والمحويت, وتم تدشين مشروع غرس مليون شتلة من البن ومليون شتلة من العنب والعمل جار على مشروع غرس مليون شتلة من التين, الأمر الذي حفز المزارع اليمني للتوجه إلى إنتاج أصناف زراعية جديدة مثل الفراولة والتي كانت تستورد من مصر بنسبة 100 % حيث أصبح هناك اكتفاء ذاتي من هذا الصنف ومن جميع الفواكه والخضروات تقريباً، ولا زال العمل جارياً بوتيرة عالية لتحقيق الهدف الأهم وهو الاكتفاء الذاتي من صنف القمح الذي يشكل فجوة في الاستيراد بنسبة 97 % بتكلفة تصل إلى 700 مليون دولار سنوياً !!
أما على المستوى الصناعي فقد تم تدشين مشروع تجميع وصناعة حراثات زراعية بإمكانات محلية قادرة على التقليل من تكاليف الإنتاج, وهذا بدوره انعكس إيجاباً على العملية الإنتاجية، كما انتشرت المشاريع الخدمية في مجالات التسويق والاستيراد والتصدير بشكل لافت للنظر خلال سنوات العدوان بعد أن غادر يمنيون كُثر عقلية الاتكالية والاعتماد على المرتب إلى مربع العمل والإنتاج.
ولأن الحاجة أم الاختراع لم يقفْ اليمنيون متفرجين مكتوفي الأيدي وطائرات وصواريخ العدوان السعودي الأمريكي تعبث في سماء بلادهم وتدمّر بنيتهم التحتية مستبيحة الأرواح والممتلكات, بل كان ذلك دافعا لهم لتطوير أسلحة نوعية قادرة على ردع أي عدوان, وكان لهذه الأسلحة التي صُنعت بأياد وعقول يمنية الفضل في تحييد جزء كبير من الهجمات العدوانية التي تعرّض لها البلد محققة صدى عظيم في جميع أنحاء العالم, ولا زال العمل يجارياً على قدم وساق في سبيل تطوير قدرات عسكرية ما يجعل المعتدي يفكر ألف مرة قبل الإقدام على أي مغامرة تستهدف الشعب اليمني وأرضه وشعبه، وذلك ما كان له أن يتحقق لولا تلك الرؤية الاستراتيجية الثاقبة والظروف القاسية التي تعرض لها البلد والتي جعلت من كل فرد ينتمي إليه مستشعراً بالمسؤولية.
ها هي أيام قلائل تفصلنا عن ست سنوات لأكبر عدوان في التاريخ واجههُ أعظم صمود وأضخم إنجازات يحق لنا أن نفتخر بها وبما حققناه في فترة وجيزة لنخلّد ما صنعناه في أنصع صفحات التاريخ ونعطي دروساً مجانية في العزة والكرامة لأولئك المنبطحين, والقادم بإذن الله أجلّ وأعظم.
*رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي*