خليل المعلمي
لزبيد مكانتها العلمية والتاريخية والثقافية عبر العصور والأزمان وحتى في وقتنا الحاضر، لقد جمعت زبيد بين التاريخ والعلم معاً خلال فترة العصور الوسطى، ففي الوقت الذي كانت فيها زبيد مركزاً للحكم وعاصمة لمعظم الدويلات التي نشأت في تلك الفترة كانت أيضاً منارة للعلم والعلماء، وقد تخرج منها الكثير من العلماء والفقهاء وفي كثير من المجالات المختلفة.
عندما نقرأ ونسمع عن “زبيد” مدينة العلم والعلماء وعن تراثها وتاريخها وما قدمته للعلم وللعلماء ولطلابها الذين كانوا يأتون إليها من كل حدب وصوب، ليس من مناطق اليمن المختلفة فقط، ولكن من مختلف مشارب الأرض من شرقها ومن غربها، فقد قصدها طلاب العلم من المشرق ومن المغرب طلباً للعلم، وعندما نطلع على ما خلفته هذه المدينة من معالم وآثار تاريخية وسياحية وحضارية، فإننا نكون أكثر شوقاً واشتياقاً لزيارتها والتعرف عن قرب على هذه المعالم التي تعتبر نتاجاً لتاريخ عريق صنعه اليمنيون عبر تاريخهم، وتدل هذه الآثار والمعالم أيضاً على أهمية المدينة التي ظلت عاصمة لعدة دويلات حكمت اليمن في العصر الإسلامي.
***
أما زبيد من الداخل فإن القادم لزيارتها تأخذه الدهشة والإعجاب عندما يجد معالم هذه المدينة حاضرة أمامه لاتزال شامخة من مساجد ومعالم ومواقع وآثار وقلاع، ودور ومنازل، وأسواق، ويستحضر خلال ذلك الحركة التي كانت دائبة في فترات التاريخ المتعاقبة، من حركة الطلاب والعلماء في المساجد والمدارس، إلى حركة الأسواق داخل المدينة.
لكن هذه المدينة يشوبها ويقلق أهلها عدم الاهتمام بهذه الآثار والمعالم إلا بالنزر اليسير مما تقدمه بعض المنظمات والأشخاص الميسورين في ترميم بعض المعالم والمساجد، وقد زاد هذا القلق لدى مثقفيها وأهلها خلال السنوات الماضية مع عدم القيام بالترميم المستمر، وكذا عدم الالتزام بالنمط المعماري داخل المدينة من قبل بعض سكانها، خاصة أن القيام بترميم أي منزل أو معلم أو القيام بالبناء بحسب النمط القديم يحتاج إلى تكاليف عالية أكثر من البناء بالطوب والاسمنت، وهذا الأخير يقوم بتشويه المدينة ويغيِّر معالمها.
ومن المعالم الأثرية سور المدينة الذي ظل لقرون شامخاً ومعلماً بارزاً من معالم المدينة لم يتبق منه إلا البوابات الأربع، بينما طغت المباني الحديثة الحكومية منها والخاصة على موقع السور، كما أن معالم المدينة وروعة جمالها بدأت تختفي مع اختفاء ساحات المدينة التي يتم الاعتداء عليها والبناء عليها بالطوب والاسمنت، وكذلك عدم ترميم المباني القديمة التي تعتبر فريدة في تصميمها، ونوعية المواد المستخدمة في بنائها وظهور المباني الاسمنتية، الأمر الذي يتطلب الكثير من الجهود لإزالة هذه المباني ومن ثم إعادة المدينة إلى سابق عهدها.
***
لكن زبيد ورغم ذلك ستظل عامرة بأهلها الطيبين، وزاخرة بمثقفيها المتميزين، وبأبنائها الموهوبين في كافة المجالات العلمية والأدبية، فهي بلا شك مدينة العلم والعلماء، في أبريل 2013م وبدعوة من مكتبة زبيد العامة لحضور مسابقة شاعر زبيد لذلك العام، قمت بزيارة المدينة العتيقة وأصابتني الدهشة أنا والمدعوين إلى هذه المسابقة من شعراء وأدباء ونقاد ومن ضمنهم لجنة تحكيم المسابقة، لما أصاب هذه المدينة من إهمال أدى إلى تكرار التحذيرات من منظمة اليونسكو لشطبها من قائمة التراث العالمي.
أيام معدودة في زبيد لا تكفي لاكتشاف ما تكتنزه هذه الجوهرة الفريدة من تاريخ فريد ومعالم وآثار إسلامية من مساجد ومدارس وقلاع وكلها تحكي قصة هذه المدينة منذ بداية الإسلام ومروراً بالدويلات التي تعاقبت عليها وكل منها قد أضافت المزيد إلى تاريخها وآثارها ومعالمها حتى عصرنا الحاضر.
وليست معالم وآثار المدنية الخالدة هي ما تبهر زائرها ولكن أيضاً نقاوة وبشاشة أهلها وحسن أخلاقهم العالية وثقافتهم المتميزة والواسعة، وهي ناتجة عن فكرهم المستنير واطلاعهم المستمر على كل ما هو جديد في مجالات العلم والثقافة، وهذا ما اكتشفته عندما حضرت إحدى الندوات الثقافية التي أقيمت على هامش المسابقة وقد تبارى العديد من شبابها في إلقاء الشعر والذي تنوع بين شعر التفعيلة والشعر العمودي والحر والفصيح والعامي، فتكشفت لنا تلك الندوة والتي لم تضم إلا القليل من شعراء ومثقفي هذه المدينة بأنها زاخرة بالعطاء مجددة للأجيال المثقفة والمبدعة.
***
بعد وقت قصير من وصولي إلى المدينة قمت بجولة سريعة داخل المدينة فمررت بالسوق القديم، وفي حينها كان يتم ترميمه من قبل الصندوق الاجتماعي للتنمية باستخدام الطريقة التقليدية بواسطة أحجار الآجار والأخشاب تمهيداً لافتتاحه مرة أخرى وذلك للمحافظة على طابع المدينة المعماري، بعد ذلك جنحت إلى الجامع الكبير بزبيد، وكان هو الآخر يخضع لعملية ترميم ليس على حساب وزارة الأوقاف ولكن على حساب أحد فاعلي الخير، كما أخبرنا المقاول الذي يقوم بالترميم، على الرغم مما يملكه الجامع من أوقاف كثيرة كانت تستخدم في السابق ليس فقط لعمليات الترميم ولكن لكفالة طلاب العلم الذين يأتون إلى هذا الجامع.
عملية الترميم في الجامع الكبير بزبيد أظهرت النقوش والزخارف الجميلة التي غطتها على فترات زمنية استخدمت فيها مادة النورة البيضاء التي كانت تستخدم لتبييض الجدران بدون إدراك من القائمين على ذلك بأن الاستخدام العشوائي لهذه المادة يؤدي إلى تغطية النقوش والزخارف التي تزين الجامع.
مررت أيضاً بجامع الاشاعر الذي بناه الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري والذي كان يخضع أيضاً لعمليات ترميم من قبل الصندوق الاجتماعي للتنمية، وقمنا بزيارة أيضاً لجامع الاسكندرية وعدد من المساجد الصغيرة داخل المدينة وهذه تحتاج إلى ترميم حيث وجدناها في حالة يرثى لها من الاهمال، وقمنا أيضاً بزيارة مبنى القلعة والدار الناصري ومتحف المدينة وغيرها من المعالم وذلك برفقة عدد من الأدباء والمثقفين من أبناء زبيد الذين تركوا في أعماقنا انطباعاً رائعاً عن أخلاق أبناء هذه المدينة الرائعة.
وعلى الرغم من المحاولات البسيطة في الحفاظ على الطابع المعماري لهذه المدينة في إعادة ترميم بعض المعالم والمباني، وجهود بعض الأشخاص في إعادة ترميم منازلهم بالطريقة التقليدية المكلفة، إلا أن الجهود لازالت قاصرة من قبل السلطة المحلية في المدينة ومن محافظة الحديدة التي تتبعها المدينة، بل ومن الحكومة التي لم تقم بواجبها الكامل تجاه التحذيرات التي تتلقاها هذه المدينة من قبل منظمة اليونسكو لشطبها من قائمة التراث العالمي.
***
ومدينة زبيد تمتلك ثروة من الشباب المتوقد المتطلع للتحدث والتنوير، وخلال زيارتي تلك تعرفت على العديد من هؤلاء المبدعين، ومنهم الأديب والمثقف هشام ورو مدير مكتبة زبيد العامة الذي جعل من المكتبة مؤسسة حاضنة للإبداع والمبدعين فكان لهذه المكتبة -ولا يزال- دور كبير في تفعيل العديد من الأنشطة في مجالات مختلفة خلال الفترات الماضية وحتى الآن، بالرغم من الظروف التي تعيشها بلادنا، خاصة وأن هذه المكتبة ليست مكتبة عادية تؤدي دورها التقليدي وإنما سعت بجهود طاقمها المتواضع إلى تنظيم الكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية المختلفة كما أنها أحدثت علاقات تعاون مشاركة مع مؤسسات ثقافية أخرى.. إضافة إلى تبنيها العديد من الإصدارات الثقافية المتنوعة.
الآن وبعد أكثر من سبع سنوات ونيف على تلك الزيارة لا نعلم كيف هو حال هذه المدينة وكيف أصبح وضعها، لهذا نأمل أن تتكاتف الجهود الرسمية والشعبية في الاهتمام الجاد بهذه المدينة، وعلى جميع أبنائها والمسؤولين فيها أن يكونوا عند المسؤولية وفاءً لأجدادنا الذين حافظوا عليها لتصل إلينا بعلمها وآثارها وحضارتها، ومن أجل الحفاظ عليها وتسليمها للأجيال القادمة، فالمدينة تستحق أن تظل في قائمة التراث العالمي.