استطلاع/صقر الصنيدي –
تقف منى -وهي مدرسة في أحد معاهد اللغة الإنجليزية- وسط طلابها في أول يوم دراسي لهم وتردد باللغة الإنجليزية “أعمل معلمة هنا منذ عامين وأكره القيام بهذا”.
يعتبر الدارسين أن ما تقوله مزاحاٍ لكن مرور الأيام يؤكد أنها تعني ما أخبرتنا به حسب أحد الطلاب الذي استمر بالحديث “لم تنته الدورة الدراسية إلا وقد أصبحنا أيضا نكره ما تقوم هي به”. يفسر علم النفس ما حدث باعتباره نقلاٍ وتصديراٍ للمشاعر السلبية التي يصعب تجنبها ووفق دراسة للأخصائية النفسية آزال الحرازي التي سبق لها العمل في مركز الطفولة الآمنة فإن المعلمين قادرون على نقل المعلومات إلى الطلاب ومعها ينقلون مشاعرهم وانطباعاتهم وحتى مواقفهم من كل شيء تقريباٍ فالمعلم الذي يقوم بعمل يكرهه يعكس هذا الموقف في جميع تصرفاته.
وإذا كانت منى وهي لم تتجاوز بعد السادسة والثلاثين من عمرها لا تحب ما تقوم به من تدريس لا يأخذ منها أكثر من ساعة ونصف يومياٍ أو حتى ضعف الزمن المقدر فكيف يكون الحال بأؤلئك الذين يقضون نصف يومهم في ذات الفصل الدراسي وبين ذات الطلاب الذين يتجاوز عددهم السبعين أو الثمانين يختلفون بأمزجتهم وميولاتهم وصولاٍ إلى أهدافهم.
تشخيص
تزداد الحالة سوءا كما ترى آزال مضيفة: بتشخيص وضع من يمكننا سؤالها عن مدى إيمانها بقيمة وأهمية العلم بصورة عامة وماذا يعني لها أن تكون مصدراٍ للمعلومة لعدد كبير من المتعلمين وبالتأكيد يأتي ردها بعدم قيمة أي شيء مما تقوم به وسنجد أن لموقفها الحالي خلفية قديمة فقد كانت تكره ما تعمله المدرسات والمدرسين الذين التقتهم خلال دراستها منذ كانت طفلة فكل من أجبر على العمل في مجال لا يتوافق مع ميولاته يحمل مشاعر سيئة تجاه من يعملون في ذات المجال وغالباٍ لا يشعر بذلك ويمكن للآخرين ملاحظة الأمر بوضوح. ويتذكر أحد الطلاب الذين وجدوا تشوهاٍ في ما تلقوه من المعلمة المذكورة أنها كانت تبعث تساؤلات عدة حول أدائها ويقول: أثناء الامتحانات العادية تعاملنا كمتهمين تميز بين الطلاب ويمكن رؤية ذلك وتظل تحاول إزعاج الطلاب بالنداء باسم كل واحد وبتقليب عينيها بينهم ما يجعل القلق حاضراٍ بقوة ويصبح الخلاص من هذا الوضع أهم ما يفكر به الطالب.
لا يوجد تفسير آخر غير الكراهية التي تربطها بما تقوم به واعتبار مهنة التدريس أقل شأناٍ من أي عمل آخر. يقول أحد المدرسين القدامى الذين مرت عليهم عشرات السنين: “كنت أقوم بعملي بكل اقتناع وحب ولم أصب بالإحباط إلا بعد أن كبر عدد من الطلاب الذين درستهم في الماضي وكانوا الأقل ذكاء وقد أصبحوا في مناصب قيادية في الدولة وتحسنت أوضاعهم ويعيشون في رفاهية بينما من علمهم لم يتغير الشيء الكثير من حياته إن لم يكن حصل تغيير إلى الأسوأ وهذا أكثر ما أحبطني. ويروي المعلم الذي يعمل بصورة متقطعة بعد أن حصل على التقاعد أنه ذات مرة كان يمشي في أحد الشوراع وتوقفت سيارتان فجأة إلى جواره “ونزل منها شخص لم أعرفه في البداية وهو ينادي باسمي وبعد وقت من حديثنا عرفت أنه كان أحد طلابي وقد أصبح مسؤولا كبيرا في وزارة وترافقه السيارات والجنود”.
تقدير الرسالة
تعكس رواية المعلم وضع المعلمين المادي وعدم تقدير الرسالة التي يحملها والواجب الذي قدمه فبدل أن يفخر بنجاح طلابه يحس بالإحباط وخيبة الأمل لأنه لم ينل الكثير مما أراد. قبل عام تقريباٍ ذهب وفد اقتصادي وصحفي لزيارة الولايات المتحدة الأميركية وحين عادوا أخذوا بسرد تفاصيل رحلتهم وكان من بين أكثر ما تذكروه القصة التي رواها لهم حاكم مدينة أميركية ففي أول لقاء له مع الرئيس أوباما طلب منه إن كان لديه وقت أن يوجه نصيحة لابنته التي تخوض الامتحانات ولديهم حلم أن تصبح معلمة في مدرسة لبى أوباما الطلب وحدثها عبر الهاتف مقدماٍ لها النصح لتصبح معلمة جيدة بحكم أنه كان معلماٍ قبل انتخابه رئيساٍ دفعت مكالمة الرئيس بالطالبة إلى التفوق والإسراع نحو تحقيق الحلم.
سؤال محبط
يوجه أحد المعلمين سؤاله الدائم لما يفوق ستين تلميذاٍ في الصف الثامن الأساسي: ستدرسون ثم أين ستذهبون¿ لاوظائف ولا جامعات فلا تستعجلوا النجاح! تخرجت دفع كثيرة من الطلاب الذين سمعوا هذا السؤال المحبط. ويروى أحمد محمد الراشدي ما تحتفظ به ذاكرته: “كلما كنت أسمع هذا الكلام من المدرس أصاب بخيبة أمل وإحباط وأعود إلى البيت غير قادر على مراجعة دروسي فكل ما أعمله لن يوصلني إلى أي طريق ولم أكن أخبر أو أسأل أبي أو إخواني حول صدق ما قاله المعلم فهو شخص لا يمكن أن يكره لنا الخير وهو حريص علينا ولا يريدنا أن نتعب ثم نكتشف أنه لا يوجد أي مستقبل ينتظرنا كما كنا نتصور. لم يكتشف الراشدي أن الإحباط كان قد سيطر على المعلم وأصبح مرآة له يعكسه على طلابه ولم ينجْ منها حتى أبناء المعلم ذاته حيث كان يردد على مسامعهم كل يوم أنه يخاف عليهم أن يصبحوا شباباٍ فلن يجدوا أية فرصة.